ما زلت أذكر حنين سيارتنا تحت اشعة الشمس الحارقة، وكأنها تطلب منا الرأفة بحالها. وما زال يخيل لي صوت فرقعة الحصى تحت عجلاتها التي تسحقها بلا رحمة. أغمض عيني لعل اجفانها تمحو مسلسل تلك الصور الذي ما زال يتراءى امامي، صور لأرض قاحلة واشجار يبسة ملت عيني مرءاها أغمض عيني لعلي أنسى كل هذا. ولكن ذلك الصوت المقيت ما زال يرن في اذني، بعد ان تنتظم عقارب الساعة كل في مكانه لتعلن الخامسة فجرا. روتين ممل يتكرر يوميا من ثلاث سنوات. ارفع عظامي المتهالكة من على السرير لاضغط بقسوة على زر تلك الساعة المزعجة، لأوقف تبجحها واعتراضها على نومي. اغسل وجهي واتوضأ وارمي ما تيسر من ثياب على جسدي ثم أصلي الفجر، اعود لأرمي رأسي، لكن ليس على السرير هذه المرة، بل على ذاك المقعد في سيارة ابي والذي ينتظرني كل يوم وكأنه ملّ هو ايضا مني، وذلك ما يبدو من تغضنه في بعض اجزائه وانتفاخه في البعض الآخر. يسرح تفكيري في ذلك الطريق الطويل الموحش الذي لا ينتهي، طريق قد عبد يحصى على ما يبدو فلا يكاد يستقر جسمي على سطح المقعد. ظلام دامس، خوف وترقب وكأني اساق الى موت محقق، يقطع حبل افكاري صوت الكوابح تحت وطأة قدم ابي لاتجه بكل ثقلي الى الامام ليعيدني حزام المقعد من جديد الى مكاني. لم يعد ذلك يخيفني فطوال الثلاث سنوات كثيرا ما يخرج امام السيارة بصورة مفاجئة قطيع جمال ضلت هي الاخرى طريقها لاسمع وقع اقدامها الجرئية في وسط الظلام. تشرق الشمس اخيرا وسيارتنا ما زالت تقطع بكل يأس تلك الفيافي المقفرة وتلك الاراضي الموحشة الخالية من اي انسان عدانا أنا وأبي. تشرق الشمس لتنير دربنا، وتكشف لعيوننا مناظر مفزعة مؤلمة فياليتها لم تشرق فتلك سيارة قلبت بالامس عندما لم تحتمل احدى عجلاتها حرارة الشمس اكثر. وتلك اخرى اختلطت اشلائها بدماء جمل اعترض طريقها. وتناثرت قطعها ليبدو مقعد سائقها خالياً. اغمض عيني اللتين لم تعدا تحتملان رؤية تلك المناظر التي باتت تفزعني نهارا وتؤرقني ليلا. اطبقت اجفاني لتهرب تلك الدمعة اليتيمة التي حسبت لثلاث سنين. دمعة تحمل معها كل آلام الغربة وكل تعب تلك السنين. رفعت اناملي ومسحتها لعلي بذلك امسح معها تلك الآلام وذاك التعب، وينتهز النوم غفلة عيني ليتسلل كلص إليهما ويسرق منهما ما بقي من صحوة، فيضيع عقلي بعيدا عن واقع مؤلم، اشعر بجسدي يطير ويرتطم رأسي بسقف سيارتنا، فتحت عيني انظر وانا اعرف مسبقا ما سأرى فقد نزلت سيارتنا لتكمل طريقها بارض فضاء غير معبدة.لم اشعر بأي ألم، فكما يبدو فان رأسي هو الآخر ملّ هذه الضربة واعتادها. وصلنا أخيرا مقصدنا، هجرة ليس لي ان اصفها بأكثر من انها مسجد ومدرسة وبيوت لا تتعدى اصابع اليد الواحدة متفرقة مبعثرة. بدأ الدوام بمجرد دخولي لأحضر ذاك الطابور الغبي الحاشد الذي يقف كل صباح باستقبالي والذي لا يتعدى افراده العشرة على اكبر تقدير. يقف ذاك الطابور وكأنه جيش مهزوم ملّ الهزيمة وملّ الوقوف. تبدأ الحصة الاولى وما زال النوم يغازل اجفاني، وليس لي ان اؤدي واجبي وقد وصلت منهكة وكان جسدي قد خرج لتوه من معركة لا توازن فيها، معركة جسدي مع الوقت ومع الطريق الطويل. اسعد بمغادرة تلك المدرسة احمل حقيبتي بعد ست ساعات متواصلة. هذه قصة حياتي التي تكررت لأكثر من 800 يوما. واخيرا بعد تلك السنين أتلقى خبر نقلي ببرود مدهش، وكأن عقلي يحيل الواقع الى خيال، اسمع كلمات المديرة تهنئني وارى نظرات زميلاتي يحسدنني ولا اقوى على الحراك لوقت يائس بغيض. تتحرك شفتي اخيرا بحركة غير ارادية مبتعدة عن بعضها لتظهر اسناني دلالة على الرضى.. راضية بل سعيدة لاني اخيرا ساهجر هذه الهجرة بلا عودة ولن يكون عليّ أن اشد الرحال اليها من جديد.سعيدة لاني اخيرا لن اسمع ذاك الرنين المقيت ولن اقطع تلك المسافات الموحشة.. سعيدة لاني اخيرا ساريح ابي الذي بات تراوده احلام اليقظة المخيفة. وهو يقضي تلك الساعات الست تحت اشعة الشمس الصارمة، وساريح اخيرا عظامه التي بدأت تئن كعظامي. تلقيت تلك التهاني وتلك النظرات بمزيج من الفرحة واليأس، فاخيرا ذاك الحلم السعيد الذي حلمته كل ليلة تحقق واصبح واقعاً. ولكن عقلي ما زال جامدا لا يفكر وكأنه شجرة عملاقة عطشت سنين تحت الشمس الحارقة تنتظر قطرات المطر التي تحمل معها الحياة، وعندما نزل المطر كانت الشجرة قد يئست فارقت الحياة. ودموعي التي نزلت بغزارة وكأنها لم تقو اكثر على الصبر حبيسة حاضر بات بناظريها من الماضي. لكني كنت سعيدة وتمنيت وقتها لو أني احد تلك الطيور التي اراها بتلك الهجرة، لاطير وازف البشرى للجميع لكل من حمل همي كل تلك السنين. خاصة أمي الحبيبة. كانت قد توقفت افكاري عند هذا الحد عندما رأيت المديرة ترفع يدها وتضغط على الجرس معلنة نهاية دوام ذاك اليوم الذي هو اسعد يوم لي بتلك الهجرة.استمرت واضعة يدها وذاك الرنين أزعج أذني التي باتت تكرهه. صرخت بها بلا شعور : كفى توقفي. فجأة رفعت رأسي بقوة مندفعة الى الامام لاتحسس ما حولي. غرفتي المظلمة ووسادة مبللة بالدموع. وما زال ذاك الصوت يرن بأذني. لكنه ليس جرس المدرسة بل جرس تلك الساعة التي هي الوحيدة التي لم تمل طوال تلك السنين. نظرت اليها وعقربها يقارب الخامسة فجرا. عاد عقلي للواقع وادرك اخيرا انه مجرد حلم من تلك الاحلام التي تكررت كل ليلة من ثلاث سنين، كان عليّ ان انهض لاتهالك على ذاك المقعد الذي ما زال ينتظرني. ولا أزال أحلم وأحلم.... نوف بنت عبد الرحمن السحيمي - القويعية