تغمرني دارة الملك عبدالعزيز مشكورة896 بفضلها، وذلك بإمدادي بما تصدره من كتب تتصل بتاريخ هذا الوطن، وكان وصل إليّ منها قبل مدة قصيرة كتاب شيّق عنوانه «الجيش السعودي في فلسطين» للأستاذ صالح جمال حريري، وكان هذا الكتاب قد نشر، أول مرة عام 1369ه، فقامت الدارة وحسناً فعلت بإعادة طباعته عام 1422ه بمناسبة انعقاد: ندوة المملكة العربية السعودية وفلسطين مبررة ذلك بقولها:« ليطلع هذا الجيل والأجيال اللاحقة على أنموذج من اسهامات المملكة العربية السعودية في الدفاع عن فلسطين وما قدمه آباؤهم من تضحية وفداء لهذه القضية إلى جانب أبناء فلسطين والأمة العربية، وليكون نبراساً لهم ومجالاً لفخرهم واعتزازهم». وفلسطين عزيزة لدى كل مسلم يعتز بإسلامه وكل عربي يقدر عروبته، وقضيَّتها كانت ومازالت قضية العرب والمسلمين الأولى في هذا الزمن المعاصر، وكل كتابة تتصل بها تشد إليها من تابع سيرتها وعايش أحداثها. وما يقوم به أهلها الآن من صمود منقطع النظير أمام جرائم الصهاينة محل اعجاب الجميع، ورمز فخار لشعبهم العربي بأكمله وأمتهم الإسلامية، بل موضع تقدير كل محب للعدل والحرية والبطولة في أنحاء العالم. وكان قائد الجيش السعودي الذي جاهد في فلسطين، جنباً إلى جنب مع أشقائه من الجيش المصري، سعيد الكردي، ذلك البطل، الذي تولى فترة من الزمن رئاسة الاستخبارات العامة، وكان نعم الرجل المثقف الواعي النزيه المتسم بالحنكة والحكمة والتضحية في سبيل وطنه ومواطنيه، وما زال يرنّ في أذني صدى مقال كتبه بعنوان «غضب الخيل على اللجم» راداً فيه على معارضيه بأسلوب هو النبل عينه. فرحمه الله رحمة واسعة. ولعل مما يسعد العين النظر إليه ما ذكر في مقدمة الكتاب عن منح الملك فاروق نياشين لضباط وضباط صف وجنود سعوديين «تقديراً لأعمال البطولة المجيدة والبسالة الفائقة التي أظهروها في ميدان القتال بفلسطين»، وكان في طليعة هؤلاء سعيد الكردي، ومن أولئك من احتلوا مناصب رفيعة في القوات المسلحة السعودية فيما بعد، مثل رشيد البلاع، وعبدالله العيسى. ولقد تمتعت بقراءة ما في الكتاب من كلمات وقصائد قال أكثرها أعضاء البعثة السعودية الذين كانوا يدرسون دراسات جامعية في مصر، وأول قصيدة للأستاذ محمد سعيد بابصيل، ثم قصيدة للأستاذ محمد فدا، ومن القصائد قصيدة لعلي زين العابدين، ولعل مما يلفت النظر وجود قصيدتين للأستاذ جميل الحجيلان عنوان أولاهما «أيها العائدون» ومطلعها: أيها الشعر من ضميريَ تسري أنت دمعي ولوعة الانشاد أنت سلواي إذ يضيق زماني وعزائي إذا رمتني العوادي ومنها: يا فلسطين لن تهوني علينا كل قلبٍ إلى عبيرك صاد لا تظنِّي الحجاز يبدي جفاء إن عبدالعزيز بالمرصاد عاهد الله أن تعودي إلينا لن تطيب الحياة إن لم تعادي وقصيدة الأستاذ جميل الحجيلان الثانية عنوانها «صوت فلسطين» وقد بدأها بقوله: يا هزار الصباح ردّد ندائي وأرو للشرق محنتي وبلائي واختتمها بقوله: خطر ما تهدد القدس فرداً بل كيان العروبة الغراء سرطان الصهيون إن حط رحلاً سوف يودي ببنيتي وبنائي ثم يحبو على الشآم ويسري في ربوع الكنانة الخضراء ولأم القرى تسير خطاه فرياض العراق فالشهباء فادركوا الداء قبل أن يتفشى واحذروا الويل من يد البغضاء وفي الكتاب قصائد لمن اشتهروا بكتابة الشعر في المملكة، مثل ابراهيم علاّف، وأحمد ابراهيم الغزاوي «حسّان جلالته»، ومحمد بن علي السنوسي. على أن من أجمل القصائد سبكاً وشاعرية ومعنى، قصيدة الأستاذ محمد بن عبدالرحمن الفريح، الذي كان يوشك على التخرج من كلية الآداب وعنوانها «تحية المجاهدين» وقد استهلها بقوله: الأرض سكرى والخلائق نوّم والشرّ يفتك بالبلاد ويظلم عاث العدو بأرضنا فتمزقت والموت ظل على النفوس يحوّم سيمت فلسطين العزيزة عنوة خسفاً يجل عن الحمام ويعظم راجت بها سوق الحياة فأصبحت عرضاً وصار الحق فيها الدرهم ومنها: بالأمس قالوا فلنقسِّمها كما تقضي العدالة للجميع وتحكم فاهتاجت العرب الكرام وهالهم وطن عزيز في الحياة يقسّم فتقدَّموا لا شيء يثني عزمهم وهل العقيدة إن أرادت تهزم؟ حتى إذا بلغ الجهاد أشده والحرب كادت للعدو تحطِّم قالوا السلام وهددوا في نقضه والمرء ان عزّ الدفاع يسلّم ليس السلام وإنما هي خدعة حيكت حبائلها وفاز المحكم ثم انثنينا والتفرق سائد والبعض في حق البقية يجرم فتكشفت بعد الجهاد مقاصد فيها فلسطين الشهيدة مغنم ومنها: واليوم نحن بما أبينا نرتضي ونلحُّ في طلب النصيب فنحرم طال التوسل في الحقوق لعصبة عن مسلك الحق المبيَّن قد عموا إنا لنجأر بالشكاة ونرتجي حقاً تملَّكه العدو المجرم والكل يعلم أن من نشكو له كان العدو فكيف يهدي المظلم؟ إن لم يكن للحق ما يُحْمى به فالموت أولى بالنفوس وأكرم سلم أبو عبدالرحمن، وسلمت بقية ذلك الجيل الواعي بقضايا أمته، وما كان بوح أبي عبدالرحمن ومن كان معه من جيله إلا تعبيراً عن المشاعر النبيلة في ذلك الأمس واستجلاء لحوادث اليوم التي تزيد كل مخلص ومخلصة للأمة ألماً وحسرة.