هل يجهل التحالف الأمريكي البريطاني ما سوف تعمله حكومة دولة القانون بعد الانسحاب النهائي لوجوده العسكري من العراق؟، أم أن هذا التحالف كان منذ البداية يهدف تماما إلى وقوع المتوقع، أي استيلاء وتسلط المتحازبين في دولة القانون وهم أغلبية شيعية إيرانية أكثر منها عراقية برئاسة نور المالكي، فيحدث التصدع النهائي بين العرب الشيعة والعرب السنة ثم الحرب الأهلية، على أمل أن تجذب هذه الحرب إلى داخلها كل الأطراف والقوميات الإقليمية المجاورة ويصفي بعضهم بعضا. مازلت أذكر ما سمعته قبل عشرات السنين منقولا عن طيب الذكر الأستاذ رضا لاري بأنه تحدث عن مراسلات بين المندوب السامي البريطاني في الهند وزميله المتصرف البريطاني في البصرة في نهايات القرن التاسع عشر. كان الموظفان في الخارجية البريطانية يتراسلان حول أفضل الوسائل لنبش العداوات وإذكائها في المنطقة بما يخدم المصالح البريطانية التي تعتمد مبدأ «فرق تسد». ركز فحوى المراسلات تلك على التصدع الذي أحدثته الحرب الإسلامية الأولى بين أتباع علي وأتباع معاوية وما تلاها من الانشقاقات وتفرع المذاهب والشيع. كان الاستنتاج البريطاني هو أن النار القديمة مازالت تحت الرماد ويمكن استثمارها من جديد. حصلت تلك المراسلات على إذن الخروج من السرية إلى العلن بعد انقضاء المدة القانونية المفروضة في بريطانيا على سرية الوثائق السياسية. بالأمس القريب انسحب آخر جنود الاحتلال الأمريكي من العراق وسلم المفاتيح لحكومة دولة القانون. الكل يعرف، وبالذات الإدارة الأمريكية وحليفتها البريطانية أن معنى ذلك هو دعوة الجمهورية الإسلامية الإيرانية إلى التفضل والاستيلاء النهائي على العراق. بدأنا الآن فقط نتعجب مما أعطاه الغرب لإيران من امتيازات إقليمية خلال العشرين سنة الماضية. بعد استيلاء الخميني على السلطة في إيران حاول التحالف الغربي احتواء إيران ما بعد الشاه بكل الوسائل والملاينات بغية استمرار التعامل معها نظرا لأهمية إيران الاستراتيجية الفائقة، لكن حكومة الملالي تمنعت وعاندت. عند أولى المبادرات لمحاولة الجمهورية الإسلامية تصدير ثورتها إلى الجوار شجع الغرب العراق على التصدي ونشبت حرب الخليج الأولى ثم أطيلت الحرب عمدا بإمداد الطرفين بالسلاح والعتاد الغربي، لكن الغرب رجح كفة العراق وجعله يكسب الجولة الأولى. صدام حسين الذي خرج مزهوا بانتصاره المذهبي ركبه جني الغرور وبدأ يتحرش بمصالح الغرب الإقليمية والتهديد بتأديب من سماهم العملاء العرب. دبرت له السفيرة الأمريكية إبريل جلاسبي فخا واكتفت الحكومات الغربية بالصمت فقام باحتلال الكويت. نشبت حرب الخليج الثانية وتم تقسيم العراق وتهميشه وإلغائه كقوة إقليمية. بعد أحداث الحادي عشر من سبتمبر الغامضة قام التحالف الغربي بتشتيت طالبان وكف أذاها عن ظهر إيران الشرقي، ثم تحرير صدرها الغربي إثر غزو العراق عام 2003م. الحاكم العسكري الأمريكي باول بريمر فتح عندئذ كل الأبواب لإيران إلى العراق بحيث تمكنت من السيطرة الأمنية الكاملة وملاحقة واغتيال الشخصيات العراقية الوطنية أو تشتيتها إلى الخارج. ما نشهده اليوم هو أن عراق المالكي بدأ فورا بتهيئة الطريق الآمن للإمدادات بين إيران وسوريا عبر الأنبار بالرشاوى أو اغتيال الشخصيات السنية المعارضة، ويطالب برأس نائبه السني في الحكومة ويهدد بتسريح كل الوزراء المحسوبين على القائمة العراقية المشاركة في تأليف الوزارة، وسبق أن حول مبالغ طائلة من أموال النفط العراقية إلى حكومة بشار الأسد لإنقاذها من الإفلاس النهائي. في النهايات المحتومة سوف تسقط الحكومة العنصرية في سوريا وتشب فتنة مذهبية هناك وتصفيات حسابات وتسيل دماء غزيرة. سوف تمتد الفتنة إلى العراق كحرب أهلية مفتوحة ثم إلى الكويت والبحرين. هذه المرة لن يتدخل الغرب لكن إيران ستفعل مما يضطر دول مجلس التعاون إلى الانجرار للحرب رغما عنها، كما أن الترك والكرد سوف يصبحون أطرافا متقاتلة لتصفية حساباتهم البينية. العرب السنة والشيعة والفرس والكرد والترك كلهم مسلمون، وكلهم قد يدخل في صدامات مذهبية وطائفية مهلكة تدمر علاقاتهم الدينية والإقليمية ذاتيا، ويعود التاريخ كما بدأ، عربا وفرسا وروما. هل كانت ياترى حروب الخليج الثلاث وانتهاؤها بتسليم العراق لإيران خطوات تطبيقية لتوصيات السياسيين البريطانيين قبل 100 عام؟. أين أنت يا طيب الذكر رضا لاري لتطلعنا على تلك الوثيقة.