تعرض «الجزيرة» من خلال هذا التقرير تصوراً متكاملاً للخبير الزراعي عبدالله الهندي مدعماً بالأرقام عن نوع المحاصيل (التركيبة المحصولية) المناسبة والكيفية التي يمكن من خلالها تحديد الموازنة المائية السنوية للقطاع الزراعي التي يمكن سحبها من الآبار العميقة (التكوينات الجيولوجية الرسوبية الرئيسة والثانوية ) الموجودة في مناطق الزراعة الرئيسة خارج منطقة الدرع العربي مع توفير كميات كبيرة جداً من مياه المخزون الجوفي المخصصة للزراعة حالياً .لعلنا نتفق جميعا بأن قرار مجلس الوزراء رقم 335 الذي صدر قبل أربع سنوات، يهدف إلى ترشيد استهلاك المياه المخصصة للقطاع الزراعي. ولا جدال بأن الدولة كانت ترغب من إصدار هذا القرار إلى وقف الهدر الهائل من المياه الجوفية العميقة وحفظ حق الأجيال القادمة من المخزون الجوفي المائي، بمعنى العمل على إطالة عمر المياه الجوفية بأقصى فترة زمنية ممكنة. إلا أن القرار للأسف الشديد أعطى نتائج عكسية مما أدى إلى زيادة استهلاك المياه الجوفية. وقد أشرت إلى ذلك في مقالات سابقة ويدعم ذلك التقرير الذي صدر حديثاً عن معهد الملك عبدالله للبحوث التابع لجامعة الملك سعود، وكذلك إحصائيات وزارة الزراعة التي تشير إلى أن المساحة المستغلة لزراعة الأعلاف أكثر المحاصيل الزراعية استهلاكاً للمياه قد زادت في عام 2010 م بنسبة 15% حيث بلغت (184462 هكتار) مقارنة ب(160356 هكتار) عام 2009 م، وقد زادت المساحة المزروعة بالبرسيم في عام 2010 م بما نسبته 20% حيث بلغت (122563 هكتار) مقارنة ب (102106 هكتار) عام 2009 م مع ملاحظة إن المساحة المزروعة بالبرسيم قد زادت بنسبة 40.7% في عام 2010 م مقارنة بعام 2006 م. والمؤكد أن الدولة لا تستهدف تضييق الخناق على المواطنين من المزارعين بفرض شروط وضوابط تمنع منعاً باتاً استغلال مواقع النشاط الزراعي التي تنتج القمح لإنتاج محاصيل أكثر استهلاكاً للمياه. إن التصور الذي أطرحه في هذا المقال سيؤدي إلى جعل القطاع الزراعي النباتي يساهم في الأمن الغذائي بشكل فعلي مع توفير كميات هائلة من المياه بحيث يتم استهلاك ما بين ربع إلى ثلث ما يستهلكه القطاع الزراعي في الوقت الحاضر. وهذا التصور يتمحور أساساً حول جعل محصول القمح (ذو الأهمية القصوى للأمن الغذائي) يلعب دوراً أساسياً في النشاط الزراعي الفصلي الذي يتم في هذا البلد. القمح حجر الزاوية لهذا التصور أساس هذا التصور يقوم على تخصيص ستمائة ألف هكتار لزراعة القمح عن طريق توقيع عقود مع المزارعين المنتجين للقمح بضوابط واضحة ومحددة وصارمة تجعل للدولة الحق في إيقاف النشاط الزراعي للمزارع الذي لا يلتزم ببنود العقد الذي تم توقيعه مع الدولة ممثلة بوزارة الزراعة. وتفاصيل هذا التصور تتمثل بالسماح لعدد من المزارعين في مختلف مناطق المملكة بزراعة ثلاثمائة ألف هكتار سنوياً ويتم ترك الثلاثمائة ألف هكتار الأخرى العائدة لعدد آخر من المزارعين وفي مختلف مناطق المملكة أيضاً بدون زراعة، ثم في السنة التالية يتم القيام بتطبيق التعاقب بين المزارعين بجعل المزارعين الذين لم يقوموا بالزراعة في العام السابق بزراعة محصول القمح في الثلاثمائة ألف هكتار الأخرى العائدة لهم. وبهذه الطريقة نضمن تخصيص ستمائة ألف هكتار لزراعة محصول القمح في الموسم الواحد وبكمية مياه فعلية تروي ثلاثمائة ألف (300000 ) هكتار تستهلك ما مقداره (2) مليار متر مكعب من مياه الري وتنتج مابين (1.8) و (2) مليون طن من محصول القمح. وهنا تجدر الإشارة إلى أن ضمان نجاح هذا المقترح يعتمد اعتماداً كلياً على قيام الدولة بشراء محصول القمح بسعر مناسب وعادل يقدر باثنين (2) ريال للكيلو جرام وهو ما يعادل ألفي ريال للطن للمزارعين الذين قاموا بزراعة القمح، أما أولئك المزارعين الذين يملكون الثلاثمائة ألف هكتار الأخرى التي لم يتم زراعتها فيدفع لهم 30% من تكلفة الطن الفعلية وهو ما يعادل ستمائة ريال للطن ويقدر محصولهم وفقاً لما أنتجوا في العام السابق. لا جدال بأن هذا التصور سيكلف خزينة الدولة الفرق بين السعر الذي يتم به شراء القمح من السوق العالمي والسعر الذي يتم دفعه للقمح المنتج محلياً بالإضافة إلى المبلغ الذي يدفع للمزارعين الذين لم يقوموا بزراعة الثلاثمائة ألف هكتار التي تم تركها بدون زراعة، والتكلفة المالية يمكن تحديدها حسابياً وفقاً لما يلي: تكلفة القمح المنتج محلياً والمقدر بمليوني طن بسعر شراء 2000 ريال للطن = 4 مليارات ريالوحيث إن سعر شراء القمح المستورد يقدر بحدود 340 دولاراً أو ما يعادل 1275 ريالاً وبذلك فمقدار ما تدفعه الدولة للقمح المستورد الذي يعادل كمية المنتج محلياً = 2 مليون ×1275 = 2.55 مليار ريال إذاً فمقدار ما تدفعه الدولة للمزارعين كسعر تشجيعي = 4 مليارات – 2.55 مليار = 1.45 مليار ريال بالإضافة إلى ما يدفع للمزارعين الذين لم يزرعوا والمقدر بحد أعلى باثنين (2) مليون طن ×600 ريال = 1.2 مليار ريال وبذلك فإجمالي ما تدفعه الدولة لمزارعي القمح والتي تقدر مساحتهم بستمائة ألف هكتار في السنة هو ما يعادل 1.2 + 1.45 = 2.65 مليار ريال. إن تطبيق هذا التصور سيمكننا من صيد أكثر من عصفور بحجر واحد وسيكون له فوائد كبيرة جداً على الأمن المائي والأمن الغذائي ويمكن حصر أهم هذه الفوائد في النقاط الآتية: 1.سيؤدي هذا التصور إلى الحد وبشكل كبير جداً من قيام المزارعين بزراعة الأعلاف ذات الاستهلاك العالي من مياه الري بسبب ما يدفع لهم في السنة التي لا يزرعون بها وكذلك للدور الرقابي الذي سوف تمارسه الجهة المعنية والذي يعتبر ركيزة أساسية في هذا التصور. 2.إنتاج ما يقارب (2) مليون طن من محصول القمح المحلي سيجعل المملكة محصنة من تقلبات السوق العالمي وكل الصعوبات التي قد تواجه إنتاج القمح في المستقبل المنظور والبعيد، وبالتالي نكون قد نجحنا في جعل القطاع الزراعي المحلي يساهم مساهمة حقيقة في الأمن الغذائي. 3.إبقاء ثلاثمائة ألف هكتار غير مزروعة سيوفر كميات هائلة من المياه الجوفية بالإضافة إلى فوائده الفنية للزراعة، مع جعل المزارعين لا يفكرون باستغلالها زراعياً بزراعة محاصيل أخرى بسبب ما يدفع لهم في السنة التي لا يزرعون خلالها وكذالك بسبب الرقابة المحكمة عليهم. 4.هذا التصور سيكون من نتائجه القضاء التام على التمليك المؤقت للمزارع الذي يقوم به ملاكها حالياً عن طريق تأجيرها على العمالة الأجنبية والذي يحدث على نطاق واسع في مواقع الزراعة المروية الرئيسة في مختلف مناطق المملكة. التركيبة المحصولية وكمية مياه الري الإجمالية السنوية الجدول التالي يحدد نوع المحاصيل ومساحاتها وكميات المياه التي تروى بها ويمكن استغلالها زراعياً في الموسم (السنة) الواحد في جميع أنحاء المملكة. ويتضح من الجدول أن الكمية الكلية لمياه الري التي يمكن سحبها من المخزون الجوفي تعادل ما مقداره حوالي (5.7) مليار متر مكعب وهو رقم منخفض جداً مقارنة بما يحدث حالياً. كذلك يلاحظ من الجدول أن هناك العديد من المحاصيل الإستراتيجية التي تم تخصيص مساحة محددة لها، وقد تم تقدير مساحاتها بناءً على إحصائيات وزارة الزراعة في السنوات الأخيرة. وبالإضافة لذلك فقد تم تحديد مساحات لمحاصيل أخرى غير إستراتيجية بهدف الحفاظ على الاستثمارات التي أنفقت عليها. خاتمة أتمنى من الجميع الإمعان في هذا التصور وتكرار التدقيق به لأنه يخدم الأمنين المائي والغذائي وبالتالي الأمن الوطني مع إعطاء اعتبار فعلي لمصلحة المزارعين، فهو ليس ضرباً من الخيال وأرى إمكانية تطبيقه دون تعقيدات. وهو بالمناسبة لا يتعارض مع بنود منظمة التجارة العالمية لأنه يدخل ضمن الدعم المسموح به للمملكة بالإضافة إلى أنه يصنف ضمن المصلحة العليا لهذا البلد والأمن الوطني الذي لا يقبل أنصاف الحلول. والملاحظ أن المبالغ التي ستدفع للمزارعين كمساعدة خلال الموسم الزراعي الواحد تبلغ أقل من مليار دولار، علماً بأن ما تدفعه دول العالم كمساعدات للمزارعين وخصوصاً في أوروبا وأمريكا الشمالية يبلغ ما مقداره مليار دولار في اليوم الواحد (إجمالي مساعدات الدول الأعضاء في منظمة التجارة العالمية للقطاع الزراعي تصل إلى أكثر من 360 مليار دولار في السنة). كما أن تطبيق هذا التصور يأتي من الامتثال التام من قبل المزارعين للعقود التي يتم توقيعها ومن يخرق الاتفاق فهو لا يترك خياراً للدولة إلا بمنعه من مزاولة النشاط الزراعي وعلى جميع المزارعين الفهم التام بأن المياه الجوفية هي ملك للدولة وهي الجهة الوحيدة التي تحدد الكيفية التي يتم بها استهلاك هذه المياه من منطلق وطني بحت. وهنا لا بد من الإشارة إلى أن تنفيذ هذا التصور يحتاج إلى تفعيل دور وزارة الزراعة الرقابي من خلال الإدارات العامة لشؤون الزراعة وفروعها ووضع سجلات دقيقة جدا لجميع المزارع لكي تسهل عملية تحقيق الأمن المائي والأمن الغذائي.أخيراً أود أن أشير إلى أن المبلغ الذي سيدفع للمزارعين ليس بالقليل لكن الأمن المائي والأمن الغذائي وبالتالي الأمن الوطني يستحق دعمه من جميع المهتمين بالقطاع الزراعي وفي مقدمتهم الدولة، علماً بأن سياسة الدفع للمزارعين من منطلق وطني يعمل بها في كثير من الدول منذ أكثر من خمسين عاماً. عبدالله بن علي الهندي