في لقاء الخطاب الثقافي السعودي الرابع طرح مؤتمر الحوار الوطني أربعة محاور تتناول الإصلاح والتطوير. تضمنت المحاور الأربعة أسئلة محددة، هي الأجندة التي تنظم أفكار المشاركين من أجل توجيهها بالإجابة عنها لبلورة رؤية تقود التوجه العام للاستراتيجية المأمول وضعها من أجل أن تقود الدولة بمساندة المجتمع الإصلاح المنشود. وهنا سأطرح على قارئي الكريم مشاركتي التي طرحتها في المؤتمر فلعلي أسعد بنقد علمي أتعلم منه أو عتاب محب أنتفع به. دار المحور الأول حول الإصلاح والتطوير فتساءل عن أربعة أمور: ما مجالاته؟ وماذا نعني بالإصلاح والتطوير؟ وما منهجه العام؟ وما هي متطلباته؟ قلت: بلغة الحوار الوطني فإنني أعتقد ان معنى الاصلاح هو التغيير وأن معنى التطوير هو التجديد. فالإصلاح هو تبديل الفاسد بالصالح، فهو تغيير لأنه تبديل شيء بعكسه. وعلى كل حال ففاسد اليوم قد يكون هو صالح الأمس لكنه فسد بسبب تغير المعطيات وتحول الزمان. وصالح اليوم قد يكون هو فاسد الأمس لكنه صلح بتغير المعطيات الحديثة المناسبة له. ولذا فلا يُعاب اليوم نظام الأمس. وأما التطوير فهو تجديد أمر قديم جيد صالح يحتاج إلى بعض التعهد والترميم والتعديل في مظهره ومبطنه لموافقة المتغيرات الحادثة مع المحافظة على أصله. وتحت هذا المعنى، فإنني أعتقد أن مجال الاصلاح عندنا في بلادنا هو في تغيير أسلوب التخطيط، وأن مجال التطوير في بلادنا هو في تجديد الخطاب الديني الذي يقوم عليه دستور البلاد وتستمد منه العادات والتقاليد والثقافة والخصوصية السعودية. إن الجامع الذي يجمع بين البلاد كلها المتأخرة منها أو المختلفة، مسلمها وكافرها، أسودها وأبيضها عربها وعجمها هو التخطيط المركزي. ومركزية التخطيط إذا أُطلقت بالتعميم تشمل المركزية في التخطيط السياسي والإداري والاقتصادي. وقد تجد أشكالا معينة من التخطيط المركزي في بلاد متطورة هنا وهناك بحدود نسبية وفي أزمنة معينة، ولكنك لن تجد بلدا متخلفا إلا وهو بعيد كل البعد عن لامركزية التخطيطية في جوانبها الثلاثة. ومن التجارب الإنسانية، فهذه الدول الشيوعية التي تمثل المركزية التخطيطية في أقصى صورها وهذه الدول الديمقراطية التي تمثل اللامركزية التخطيطية، وما بين الطرفين من أنظمة اشتراكية ورأسمالية أو مختلطة أو متحولة عبر الأزمنة والقطاعات ( الاشتراكية تخطيط مركزي للاقتصاد والرأسمالية تخطيط لا مركزي للاقتصاد). ولذلك فإنني أعتقد بالمنطق الذي تشهد له التجارب الإنسانية أن الإصلاح يجب أن يتركز على تغيير التخطيط عندنا من المركزية في السياسات والإدارة والاقتصاد الى التخطيط اللامركزي في هذه الجوانب الثلاثة كلها. وأما التطويرفيجب أن يتركز ابتداء على تجديد الخطاب الشرعي السلفي عندنا، فهوعلى نفس النحو من مركزية التخطيط عندنا: يتسم بشيء من الانغلاق والتكتيم والتكرار.وتجديده يكون بانفتاحه الفكري شعبيا وعلميا ودوليا وواقعيا مع المحافظة على أصول الخطاب السلفي. أما المنهج العام للإصلاح والتطوير فالإسلام هو دستور البلاد، ومصالح العباد هي مراد نصوص الشارع الحكيم في جانب التدبير الدنيوي والمعاملات. والعقل والمنطق هما أداتا القياس على النصوص الثابتة -التي مرادها المصالح- عند وقوع الحوادث المستجدة المتغيرة في حياة الناس. ولذا فمصالح الأمة المبنية على العقل والمنطق هي التي يجب أن تكون المنهج العام للإصلاح والتطوير. وعلى كل حال فالحوار العقلي المنطقي يجب أن تشهد له التجارب الإنسانية بقابليته للتطبيق. فالسياسات الإنسانية قد تبدو منطقية نظريا ولكنها تفشل تطبيقيا. ولذا فشواهد التجارب الإنسانية الحقيقة يجب أن تكون هي الميزان لترجيح المنطق الواقعي من المنطق الحالم. وأما متطلبات الإصلاح والتطوير فهي الصدق في الطلب والإخلاص في العمل والعزيمة على التنفيذ والاعتراف بالواقع. ولنا في الصين وروسيا مثلا وعبرة. فالأولى اعترفت بفساد التخطيط المركزي منذ السبعينيات، فبدأت بالتخلي عنه منذ ذلك الحين، بينما أنكر الروس فساد نظامهم المركزي إداريا وسياسيا واقتصاديا حتى فات الفوت فانهارت إمبراطوريتهم وتشتتت شعوبهم. وغدا نكمل مشاركتي في المحاور الثلاثة المتبقية التي طرحت تساؤلات عن دور المجتمع في الإصلاح وتحدياته وأولوياته، وبالجملة فإن المسكوت عنه في أطروحات الإصلاح والتطوير أنها غالبا ما تُبنى على قيم ومبادئ تتسم بالمثالية تخيلا وبالكمال تصورا، فهي أفلاطونية الفكر والمنهج، حالمة خيالية في النتيجة. ولذا أصبحت لجاننا ونقاشاتنا ومؤتمراتنا تُنتج نسخا مكررة بأغلفة متلونة متنوعة من المدينة الفاضلة.