إن كل ما يجري في العالم من حركة وسكون، وخير وشر، وإيمان وكفر، وطاعة ومعصية، كل بقضاء الله وقدره، وكذلك فلا طائر يطير بجناحيه، ولا حيوان يدب على بطنه ورجليه، ولا تسقط ورقة إلا بقضائه وقدره، وإرادته ومشيئته، وليعلم المسلم أن ما قضاه الله تعالى وقدره فهو كائن لا محالة، وأن من قضائه سبحانه وتعالى أن يعيش الإنسان عمرا زائلا في الحياة الدنيا، ثم يعيش عمرا خالدا في الآخرة. قال تعالى: {وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلاَّ بِإِذْنِ الله كِتَابًا مُّؤَجَّلاً}، ولما خلق الله الخلق لحكمة، جعل موتهم حكمة، ليبلوهم أيهم أحسن عملا، الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ . إن في الموت عظة وعبرة، فهو ليس نهاية وفناء، بل هو بداية لحياة برزخية لا يعلمها إلا الله سبحانه، وهو هادم اللذات، ومفرق الجماعات.. يقول الحسن البصري رحمه الله (فضح الموت الدنيا فلم يترك لذي لب فيها فرحا).. بالأمس القريب، وتحديدا ليلة الاثنين الموافق الخامس والعشرين من شهر ذي القعدة، لم يكن يوما عاديا في محافظة الحريق، فقد أشرقت شمس ذلك اليوم لتفجع الكثيرين بخبر الحزن والأسى ولوعة الفراق لفقد الحريق رجلا من أعيانها «الشيخ: تركي بن رشيد بن تركي الهزاني (أبو وائل) هذا الرجل الفاضل الذي أكاد أجزم أنه لم يسمع أحد ممن يعرفه بخبر وفاته إلا واكتوى بنار الحزن والأسى لفراقه. لقد كان رجلاً شجاعاً كريماً سخياً.. لقد كان رجلاً محنكاً، وعضداً أميناً لأهالي الحريق.. لقد كان رجلاً سهلاً سمحاً متواضعاً، أحبه كل من عرفه. في يوم فراقه كشف الناس عما في قلوبهم من حب وتقدير لهذا الرجل، فهلت أعينهم بالدموع، ولهجت ألسنتهم بذكر مناقبه والدعاء له، والناس شهداء الله في أرضه، فقد روي عن الرسول صلى الله عليه وسلم أنه مرت به جنازة فأثني عليها خيراً في مناقب الخير، فقال: وجبت، ثم مروا عليه بأخرى فأثني عليها شرا في مناقب الشر، فقال: وجبت، إنكم شهداء الله في الأرض. وقد كان أحمد بن حنبل يقول: (موعدكم يوم الجنائز)... يا أم تركي.. لا تحزني.. فوفاة تركي قضاء مفروغ وقدر واقع.. يا أم تركي.. لا تحزني.. فكلنا لله، ونحن خلقه، وفي ملكه، والمعاد إليه، والأمر بيديه.. يا أم تركي، يقول الله جل في علاه : وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُم مُّصِيبَةٌ قَالُواْ إِنَّا لِلّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعونَ . إِنَّا لِلّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعونَ هي بلسم المصائب، وعلاج الأزمات، وهي أبلغ علاج وأنفعه.. يا أم تركي.. لا تحزني.. فالمؤمن مبتلى على قدر إيمانه، فإن كان في إيمانه صلابة زيد في بلائه حتى يلقى الله ليس عليه خطيئة. عن أبي سعيد الخدري وأبي هريرة -رضي الله عنهما- عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: (ما يصيب المؤمن بلاء ولا نصب ولا وصب ولا همٌ ولا حزنٌ، ولا أذى ولا غم، حتى الشوكة يشاكها إلا كفر الله بها من خطاياه) وعن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: (ما يزال البلاء بالمؤمن والمؤمنة في جسده وماله وولده، حتى يلقى الله وما عليه خطيئة). ووالله لقد عرفناك امرأة تقية صابرة محتسبة وما فقدك لفلذة كبدك إلا رفعة لدرجاتك يوم القيامة بإذن الله.. إن المصائب هي كفارة الذنوب والخطايا وثمار الصبر عليها بغير حساب، يقول سبحانه:{إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُم بِغَيْرِ حِسَابٍ} وقال الرسول -صلى الله عليه وسلم-: إذا مات ولد العبد قال الله لملائكته: قبضتم ولد عبدي فيقولون: نعم، فيقول قبضتم ثمرة فؤاده، فيقولون: نعم، فيقول: ماذا قال عبدي؟ فيقولون: حمدك واسترجع، فيقول الله: ابنوا لعبدي بيتا في الجنة وسموه بيت الحمد.. تذكري أعظم مصيبة في تاريخ الأمة، وهي وفاة الرسول -صلى الله عليه وسلم، حيث يقول: (إذا أصيب أحدكم بمصيبة فليذكر مصيبته بي فإنها من أعظم المصائب).اللهم اغفر لتركي وارحمه، وعافه واعف عنه، وأكرم نزله، ووسع مدخله، ونقه من الذنوب والخطايا كما ينقى الثوب الأبيض من الدنس، اللهم أحسن عزاء والدته وشقيقه وشقيقاته، وزوجته وأولاده، اللهم اخلفه في ذريته وأصلحهم واجعلهم عملا صالحا له، وارزقهم بره بعد مماته، حيث ذكر الرسول صلى الله عليه وسلم : أن العبد إذا مات انقطع عمله إلا من ثلاث، وذكر منها (ولد صالح يدعو له)..وصلى الله وسلم على نبينا وقدوتنا محمد بن عبدالله، وعلى آله وصحبه ومن والاه.