يتصاعد عدد الشهداء في سورية بوتيرة مرعبة وأصبحت أعدادهم بالآلاف، بينما تجاوزت أعداد الجرحى والمعتقلين أضعاف هذا الرقم. وما زالت آلة الموت والعنف والدمار توّغل في الدم السوري وتزداد قوة وشراسة يوما بعد يوم، وما زال النفق المظلم يزداد طولاً وظلاما، وأصبح بصيص الأمل يتلاشى شيئا فشيئا وأصبح الخوف والقلق هما الحديث اليومي لكل مواطن سوري لأنه لا يعلم ما يخفيه له الغد من مفاجآت. الدم الذي يهدر في سورية كله دم سوري، ومع سقوط كل شهيد, من أي طرف كان, أو إصابة جريح جديد أو اعتقال معارض أو اختفائه يزداد التوتر وتتصاعد حدة الحقد والاستقطاب بين شرائح المجتمع السوري، ويضمحل عدد من كانوا أو ما زالوا يقفون على الحياد. كما تتزايد عوامل الخطرالمهدد للوحدة الوطنية والنسيج الاجتماعي والتعايش السلمي ومستقبل الوطن ووحدته. فسورية الآن أمام محنة كبيرة ومنزلق خطير يقترب من أوضاع الحرب الأهلية الداخلية، قد تكون نتيجتها مرعبة بما لا يقارن بالأوضاع التي مرت فيها انتفاضات تونس ومصر وليبيا. ما يلفت النظر أن السلطة في سورية ما زالت تقنع نفسها بعدم وجود أزمة كبيرة في البلاد، وأن ما يحصل لديها هو لعبة أو مؤامرة خارجية وأن هذا شيء عابر وسينتهي قريبا وهي تتصرف كالنعامة عندما تخفي رأسها في الرمل لكي لا ترى المخاطر المحدقة بالوطن. كما أن وسائل الإعلام الحكومية والشبه حكومية لا ترى إلا بعين واحدة، تنتقي وتبتسر وتنقح ما تقدمه للمواطن من تقارير عن الأحداث في سورية إلى الحد الذي أدى إلى ضياع مصداقيتها. أما وسائل الإعلام الخارجية المختلفة فهي تقدم شيئاً مغايراً تماماً لما يقدمه له الإعلام السوري ويستشف من طريقة التقديم أن هذه الوسائل الخارجية ليست حيادية، مما أدى إلى حيرة المواطن السوري وعدم تمكنه من معرفة أين تكمن الحقيقة. ما زال النظام في سورية يرى ضعف المعارضة وتشتتها، لأنها منقسمة بين جناح يدعو إلى المواجهة المسلحة والتدخل الخارجي من أجل إسقاط النظام وبين جناح آخر يصرعلى اللاءات الثلاثة: لا للتدخل الخارجي، لا للطائفية، ولا للعنف وعسكرة الانتفاضة. وبين هذا وذاك هنالك شريحة كبيرة من المجتمع تعيش بين الخوف من بطش النظام وحرصها على أن لا ينزلق البلد إلى فتنة تؤدي إلى تمزق الوطن وانفراط عقد الوحدة الوطنية. للديمقراطية ثمن يجب أن تدفعه كل الشعوب التي تريد تطبيقها وقد تحتاج إلى جيل كامل حتى تنضج هذه الممارسة. في النظام الديمقراطي لا يوجد شيء اسمه «إسقاط النظام» لأن الأنظمة أو الأحزاب الحاكمة تتبدل عندما تخسر الانتخابات، وربما تعود إلى سدة الحكم في انتخابات قادمة. ولكن تبالغ المجتمعات العربية كثيراً في توقعاتها مما قد تجلبه لها الديمقراطية، ففي النقاشات العامة يأخد موضوع الديمقراطية حيزاً كبيراً وينتابني شعور خلال تلك المداولات أن غالبية الناس ترى بأن الديمقراطية هي المنقذ الأكبر وهي كل شيء، وبتطبيقها ستزال كل مشاكل المجتمع وتتحول الدول المتخلفة والديكتاتورية بين عشية وضحاها إلى دول مدنية متحضرة خالية من المشاكل والهموم. هذا التصور ليس صحيحاً تماماً لأن الديموقراطية طريقة حكم في مجتمع ما، لها ما لها وعليها ما عليها، وهي تحقق عدالة نسبية ليست مطلقة ولا يوجد مقياس موحد لتطبيقها. ومعروف عن الديمقراطية بأن دساتيرها تكتبها أفضل العقول ولكن تطبقها أسوأ الغرائز وهي بذلك قد تصبح ديكتاتورية ال 50,1 في المائة. حسب قناعتي، فإن الديمقراطية تحتاج للرعاية ولشروط مناسبة لكي تنمو وهي تبدأ من التربية المنزلية والمدرسية وقد تحتاج الشعوب أجيالاً لتستطيع تطبيقها بالشكل الأمثل المتعارف عليه. والسؤال المطروح هنا هل نطبق نحن الديمقراطية في بيوتنا وبين أفراد أسرنا؟ وهل علمنا أطفالنا السلوك الديمقراطي منذ نعومة أظفارهم؟ وهل نريد أن نطبق في سورية ديمقراطية على النمط العراقي التي أعلنت نتائج انتخاباتها البرلمانية على يد حكامها الجدد بعد مرور عدة شهور؟! أو هل نريد أن نطبق الديمقراطية الطائفية في لبنان؟ تدعو السلطة في سورية دائما إلى الحوار ولكن الحوار الذي تريده ليس حواراً، بل هو لقاء مجاملة بين رئيس ومرؤوس أو بين آمر ومأمور، والسبب هو أن أبسط شروط الحوار ليست متوفرة إطلاقا. الحوار يتطلب بداية الاعتراف بالطرف الآخر والتساوي بين الأطراف المتحاورة ومستوى تمثيلها في الحوار، ويجب أن يتم مع من هم أصحاب القرار وأن يكون متوازنا. وبفقدان التوازن بين الأطراف المتحاورة يتحول الحوار إلى إملاءات من الطرف القوي وهو في الحالة السورية السلطة على الطرف الضعيف التي هي المعارضة، ويتحول تحت هذه الظروف إلى عملية كسب للوقت وتسويف ومماطلة. مرور الزمن والتسويف يعني إضاعة الفرصة وهذا ليس لصالح السلطة. وحتى يصبح لأي حوار معنى, على السلطة أن تظهر النية الحسنة وتطلق سراح كل المعتقلين السياسيين في السجون السورية وتقدم من قاموا بأعمال إجرامية ضد المواطنين إلى القضاء، وأن تبدأ بالحوار الجاد بأسرع ما يمكن لأن سقف مطالب المعارضة يزداد كل يوم ارتفاعاً وما كانت ترضى به المعارضة قبل أشهر قليلة لا ترضى به الآن بعد أن سالت كثير من الدماء. يستطيع العالم الخارجي أن يقوم بدور مفيد من خلال التوسط النزيه بين أطراف الحوار ويجب أن يكون هؤلاء الوسطاء مقبولون من جميع الأطراف. تستطيع القيام بهذه الوساطة جهة واحدة أو عدة جهات مشتركة مثل روسيا والمؤتمر الإسلامي والمؤتمر القومي العربي وجامعة الدول العربية. ومع ذلك فإن من الأفضل أن يكون الحل الذي يفترض التوصل إليه في النهاية حل سوري بامتياز يراعي المصالح الوطنية السورية ويكون مقبولاً من أغلبية الشعب السوري. إذا لم يتكلم الحكماء والعقلاء مع بعضهم البعض ويضعوا مصلحة الوطن فوق كل اعتبار فإن من غير المستبعد أن يصبح للسلاح الكلمة الفصل مع كل ما يحمله الأمر من دمار للوطن ومقدراته وما له من أثر على وحدته الوطنية. بدون شك هناك من يستهدف الوطن ككيان ويرى مصلحته في الفتنة والفوضى والصيد في المياه العكرة. ولا شك أن هنالك أصواتاً تطالب بالوصاية الأجنبية وتحت أي ذريعة كانت وهنا تقع المسؤولية في الدرجة الأولى على عاتق السلطة لتجاوز هذه المحنة والتصرف بحكمة والنزول من برجها العاجي والاستجابة لرغبات الجماهير التي تطالب بالإصلاح والديمقراطية والكرامة والحرية، وهنا نذكر المسؤولين بأن دماء هؤلاء الشهداء والجرحى لن تذهب سدى وأننا على يقين تام بأن المجتمع الذي لا يطور نفسه فإن الزمن سيتجاوزه وأن الإصلاح آت، وأن الطريق الذي يسلكه شباب سورية اليوم لا رجعة فيه ولكن عليهم أن يعلموا بأن الحوار بواسطة السلاح لا يجلب إلا الدمار والعنف والويلات وأن ضحيته ستكون الوطن والمواطن. وختاماً وانطلاقاً من المسؤولية التاريخية أمام الوطن على الجميع أن يتحلوا بالحكمة والتسامح وأن يعملوا من أجل حماية الوطن وحقن دماء أبنائه، وفقط عندما نؤمن بأن ولاءنا أولا للوطن لأنه هو الباقي وكل منا إلى زوال مهما كبر شأنه وعظم مقامه، نكون أصبحنا أهلا لهذا الوطن، ولسان حالنا ما قاله الفيلسوف الفرنسي فولتير: «أخالفك الرأي ولكنني على استعداد أن أدفع حياتي من أجل أن تقول رأيك!» عندها نكون فعلاً قد أصبحنا أهلا للديموقراطية. نائب ألماني سابق من أصل سوري - ألمانيا