لا يختلف العقلاء ولا يرتاب الفضلاء أن إكرام الأحياء أولى من إكرام الأموات!! لأن الأموات لا يعون ولا يسمعون وَمَا أَنتَ بِمُسْمِعٍ مَّن فِي الْقُبُورِ !! وكثيراً ما نسمع في المحافظات تكريم أبناء المرحوم فلان بن فلان.. ذلك الوجيه الذي أعطى وأعطى، سواء بجاهه أو بمنصبه أو بماله أو بعلمه أو بأدبه وشعره أو بمؤلفاته أو.. وهذه سجية تُذكر فتُشكر.. والوفاء دليل النيل والرجولة والإباء والكرم.. (ولا يشكر الله من لا يشكر الناس).. ولكن الأكمل من ذلك والأتم والأجدر والأولى أن يكرم المرء، ويقام له مهرجان وفاء وتكريم إبان حياته؛ لتُقَرّ به عينه وعيون أبنائه وأقربائه، ويكون نبراساً للرجال، وقدوة للشباب.. أما بعد وفاته فهو تكريم أبتر أجذم!! إلا أنه أولى وأولى من العدم! ولعل ذلك داخل في عموميات النصوص الشرعية الآنفة الذكر.. وقوله صلى الله عليه وسلم: «من صنع إليكم معروفاً فكافئوه»، وقوله: «أعطوا الأجير أجره قبل أن يجف عرقه»، فأجره هنا هو الحفاوة والتكريم قبل مماته.. يقول الناظم: وإن امرؤ أهدى إليك هدية من جاهه فكأنما من ماله!! لكن المشكلة أننا نسمع ونشاهد رجالاً يلهثون ليلاً ونهاراً، سراً وجهاراً، لتحقيق مرافق معينة في محافظاتهم سعياً لتطويرها ورقيها.. وعلى حسابهم الخاص.. يبذلون وقتهم وجهدهم وأموالهم، وتضيع عليهم المصالح الكثيرة.. و(يريقون أديم وجوههم أمام الكريم واللئيم)، وهذه التي لا تُطاق. ولكي نكون منطقيين واقعيين نقول: هب أن هذا المجتهد منح شيئاً من الوجاهة والوقار والتقدير.. ألا يستحق هذا بعد هذه الجهود العظيمة التقدير؟! أفنجعل المجتهدين كالخاملين؟ مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ ، قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ . ثم إن هذه الأعمال وهذه الجهود ليست أمراً دينياً محضاً حتى نطلب لها الإخلاص، ونحن يكفينا أنه أخلص لأمته وبلده ووطنه.. فلم يكن كالخامل الذي يموت ويحيى وليس له أثر، بل هذه الأعمال دعا إليها الشارع الحكيم حتى أنه رغب في تسمية المولود (حارث وهمام) أي صاحب همة وعمل وجهد وجهاد، بل حتى في أمور الدين والعلم رغب الله سبحانه عباده في المنافسة والتألق فقال وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَاماً . بل إمام الحنفاء وشيخ الأنبياء طلب من الله الذكر الحسن فقال: وَاجْعَل لِّي لِسَانَ صِدْقٍ فِي الْآخِرِينَ أي السمعة الطيبة والثناء الحسن، وإن كان في معظمه في أمور الدين إلا أنه يعم الدنيا والآخرة، كما قال تعالى: آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الآخِرَةِ حَسَنَةً . وسُئل صلى الله عليه وسلم عن ثناء الناس على الرجل الذي يعمل أعمالاً خيّرة فيثني عليه الناس؛ فقال: «تلك عاجل بشرى المؤمن». ثم ألا يستحق هذا المجتهد المكابد لتلك المشاق أن يُشكر ويُقدَّر ويُثنى عليه؟.. بل لو عمل ذلك بقصد الثناء والوجاهة على حد زعم من مرضت قلوبهم فهو لا يستحق الثناء فقط بل يستحق أن يُقبَّل رأسه، وسواء تحقق ما يدعي به، أم لم يتحقق لأنه بذل مهجته، وجهده، فجزاه الله خير الجزاء.. طلب أحد فحول الشعر من خليفة من الخلفاء طلباً معيناً.. فأعاد عليه وألح في الطلب، فقال الشاعر: إن حققت طلبي ملأت لك الدنيا ذكراً وشكراً بقصيدة ما سمع بمثلها العرب. فقال الخليفة: أنا خليفة المسلمين، ولست بحاجة لثناء الناس. فأطرق الشاعر برهة ثم قال: فلو كان يستغني عن الشكر سيد لعزة ملك أو علو مكان لما أمر الله العباد بشكره فقال اشكروني أيها الثقلان فما من أحد إلا ويرتاح ويتشرف بالثناء، فهذه جبلة خلقية مغروسة في تركيب بني آدم، لكنها نسبية تتفاوت بين البشر. يهوى الثناء مقصر ومبرز حب الثناء طبيعة الإنسان وإن كان غالب الناس يدعي أنه لا يحب الثناء، والله المستعان على ما يصفون، المهم ألا يكون أصل العمل لأجل الثناء؛ فهذا في أمور الدين أو الدنيا. أيها الفضلاء: إن هؤلاء النشطاء جديرون بالتقدير والاحترام، والذب عن أعراضهم، ولنستيقن يقيناً أن مَنْ تناولهم أو قدح فيهم فإنما يفضح نفسه بإبداء الحسد الذي رَان على قلبه، وما هذه الكلمات المنتنة التي تطفح على حديثه إلا أعراض للمرض القلبي الذي يرسف في قيوده، وإلا إذا لم نشكرهم ونثني عليهم فلا أقل من مساعدتهم بسكوتنا عنهم، فهو أقل ما نقدمه، لكن: إذا ساء فعل المرء ساءت ظنونه وصدّق ما يعتاده بالتوهم وعادى أحباءه لوشي عداته وأصبح في همّ من الشك حائر يقول العلماء: ما خلا جسد من حسد، لكن الكريم يُخفيه واللئيم يبديه. وفي الختام أقول أصالة عن نفسي، ونيابة عنه كل منصف: إلى الأمام أيها البطل الهمام، (ما ضر السحاب نبح الكلاب)، و(لا يستخفنكم الذين لا يوقنون)، واسعوا في مناكبها، وهبوا واجتهدوا وامضوا حيث تؤمرون. واستشعروا في ذلك النية الصالحة، واحتسبوا؛ فالعلماء يقولون: «الموفق يجعل من العادة عبادة»، أي بالاحتساب. والمخذول يجعل من العبادة عادة، وكل يعمل على شاكلته. يقول شيخ الإسلام - رحمه الله -: ومن الناس من إذا أثنى على شخص أزال ذلك عنه بما استطاع، في قالب صلاح وديانة، أو حسد وفجور، فتراه يقول: أنعم وأكرم بفلان لكن فيه كيت وكيت، أو أنعم به لولا كيت وكيت. وأقول: هؤلاء كذباب لا يقعون إلا على النتن والجرح، وكان الأجدر بهم أن يكونوا كنحل لا يقع إلا على الشهد، فيا ليت قومي يعلمون. لكن كما قال الشاعر: وليس من الإنصاف أن يدفع الفتى يد النقص عنه بانتقاص لأفاضل ولقد أجادت وأفادت محافظة (البكيرية) وغيرها من المحافظات في تنظيم تكريم الرموز، بشكل مرتب منظم منسق، بعيداً عن إيغار الصدور، وتقيح القدور؛ لأن بعض الأحباب - هداهم الله - لديه حساسية متناهية، فما إن يُمدح رجل إلا ويعتقد أنها نقيصة للآخر وازدراء له. قُل لَّوْ أَنتُمْ تَمْلِكُونَ خَزَآئِنَ رَحْمَةِ رَبِّي إِذاً لَّأَمْسَكْتُمْ خَشْيَةَ الإِنفَاقِ . ولو سأل الناس التراب لأوشكوا إذا قيل هاتوا أن يملوا ويمنعوا، فالله الله بسعة الصدور على المقدور، بعيداً عن ضيق الأفق وضيق العطن، ولنحب لإخواننا ما نحب لأنفسنا ربنا َلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلّاً لِّلَّذِينَ آمَنُوا ، رَبَّنَا لاَ تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا . والسلام عليكم. - محافظة رياض الخبراء [email protected]