ينعقد اللسان ويحار البيان ولا يطاوع البنان كيف لا والفقيد (سلطان)، فقد ودّعت المملكة العربية السعودية والعالم العربي والإسلامي والدولي عَلَماً من أعلام السياسة الدولية ورائداً من روّاد الخير والإنسانية صاحب السمو الملكي سيدي الأمير سلطان «أكرم الله وفادته»، والذي خسر العالم بوفاته خسارة عظيمة، وإني أرى بفقد هذا الراحل الكريم مصيبة ليست من نوع المصائب المعهودة، فالمصائب المعهودة يقتصر أثر الحزن فيها على الأهل والأصحاب، أما المصيبة بفقيدنا الغالي فمصيبة عامة عمّت بيوت المملكة العربية السعودية وتجاوزتها إلى البلدان الصغرى والعواصم الكبرى، بل تغلغلت في جميع بلدان العالم الإسلامي في شرق الأرض وغربها، إذْ قلّما يوجد ملك أو حاكم أو عالِم أو كاتب أو شاعر في بلدان العالم الإسلامي والعربي وخارجها لا يعرف الفقيد أو لم يسمع باسمه ومزاياه الجميلة. وحقاً إنّ المصاب جلل وعظيم والخطب بفقده أليم ف{إِنَّا لِلّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعونَ}، كنا حتى ساعة وفاته نظنُّ أنّ محبي العظماء هم الضعفاء والفقراء، لكن خبر وفاته لم يكد يتحقّق حتى تبدّد هذا الظن واضمحلت قوائمه، فقد شهدنا بأمّ العين كأنه سحابة حزن غشيت وجوه علية القوم وصغارهم، فاشترك في تجرّع غصص المصاب به كل من عرف فضله من الأمراء والوزراء والوجهاء والعلماء والأطفال والنساء والملوك والسلاطين والرؤساء، وشهدت الرياض في تشييع جثمانه مشهداً أكد لنا أنّ محبته والاعتراف بفضله وكريم خلقه انغرست وتخلّلت في القلوب وسرت في الأفئدة، فالكل لفقده محزونون والكل بموته مصابون، فمن الذي بعث هذه القلوب وغشى تلك الأفئدة وملأ سويداءها حيرة وولهاً؟ ومن الذي أطلق هذه الألسنة بالثناء والعيون بالبكاء؟، لا أرى هذا كله إلاّ ترجمة عما تكنّه النفوس من الاعتراف بفضله وسيرته العطرة. لقد تواردت على الديوان الملكي برقيات ورسائل العزاء في الفقيد - رحمه الله -، وعلى وسائل الإعلام المقالات وقصائد الرثاء، وهذه المقالات والقصائد الرثائية التأبينية هي جزءٌ مما سمعته وسمعه غيري عن الأمير الراحل، فلقد كان اسمه بدراً ساطعاً في سماء الخير وفضاء الإنسانية، وعرفت كما قلت قديماً بالسّماع حتى تشرّفتُ بخدمة «سلطان الخير» كمدير عام للعلاقات العامة بالشئون الخاصة لسموه منذ خمس سنوات، وكان يومٌ واحدٌ من أيام العمل كفيلاً بأن أدوّن كتباً ومجلدات عن قصص وأخبار وأحداث لأعمال الخير لا أقول اليومية، بل على مدار الدقيقة وليست الساعة، فقد كان عطاؤه متدفِّقاً غير محدود وكل طلب لسموه غير مردود، ولعلّي أدوّن ذلك في كتاب بإذن الله في مستقبل الأيام. أقول ليس من رأى كمن سمع، فقد سمعت ورأيت واطلعت بحكم عملي الوظيفي السابق، على مواقف سموه الكريمة مع الأيتام والأرامل والضعفاء والمساكين، ومع المرضى وذوي الاحتياجات الخاصة، مع الصغير والكبير، مع المواطن والمقيم، ولم يقف عند حدود البلاد، بل تعدّاها في كل قطر وصقع، وأكاد أجزم أنه لا يوجد بلد في العالم إلاّ وقد زرع فيه «سلطان الخير» بذرة وعملاً صالحاً من أعمال الخير، كيف لا وقد شيّد الجامعات والمدارس وبنى المساجد والمراكز الإسلامية وطبع الكتب وكفل الدارسين، وأعطى الفقراء والمحتاجين، وعالج المرضى والمصابين، وواسى الضعفاء والمعوزين بطيب خاطر وابتسامة صادقة، دونما ملل أو ضجر. ولازلت أذكر بعض المواقف الإنسانية لسموه فقد قرأ - رحمه الله - في إحدى الصحف عن أحد المعاقين ويعاني من الإعاقة الجسدية والتخلُّف العقلي، فوجّه سموه بالسؤال عن حاله، وما هي إلاّ ثلاثة أيام فقط، وهذا المعاق ووالدته ينزلان في مسكن جديد اشتراه سموه لهما، وباشرت هذا العمل بتكليف من معالي رئيس الشؤون الخاصة الذي كان يتابع الأمر ويبلغني أنّ الأمير مهتم جداً بهذه الحالة غاية الاهتمام، ولم يكتف سموه بذلك، فقد أضفى جميلاً آخر تمثّل في مساعدته في مبلغ مالي وتخصيص عادة سنوية له. ومن المواقف الأخرى أنه تقدم لسموه أحد الأدباء الكبار مع عدد من أبنائه وهو في وضع ميسور طالباً المساعدة، ويعلم سموه بحالته لكن لم يرد طلبه لأنّ هذا من شيمة الكرام، وقد كان طلبه بشراء مسكن وأجزل له العطاء تقديراً لكبر سنه. وفي مهمة أخرى كان لرجل في إحدى البلدان الشقيقة مكرمة سنوية من سموه، وجرى التواصل معه بهذا الشأن والأمير في إحدى رحلاته العلاجية، فماذا قال هذا الرجل؟ وقد كان من حكماء قومه: إننا ندعو للأمير سلطان في ظهر الغيب بأن يمدّ في عمره ويبارك فيه، فإنه عَلَم من أعلام الأمة الخفّاقة، ترجع الأمة إليه وتستكن إلى ظل طياته، فلقد جمع الحكمة وسداد الرأي وثاقب البصيرة والخلق الجم والكرم والوجاهة، فكانت له تلك المواهب سحراً حبّب فيه الخلق ليس في بلادكم إنما في بلدان المسلمين، فكم مرت على بلداننا وأهلنا من المحن والبلايا وساقت لها الأقدار من الرزايا، وكان لنجدة سموه العلاج العاجل، كما وقف إلى جانب ذلك في إصلاح ذات البين ورأب الصدع ودعوته للوفاق والتسامح والدعوة إلى التآلف والتحالف، وكان يعمل بحكمته ودرايته ونفوذه على تبديد سحب الاختلاف، ويعمل على صيانة الأعراض والأرواح والأموال رغم تباين الخصماء وتنازع المشارب، ولقد عرفت من سيرته ودماثة خلقه ولين عريكته وطيب قلبه وحسن معشره وكرمه، ما يجعلنا دائماً نلهج له بالدعاء. لقد مضى سلطان الخير ومضى هذا الرجل رحمهما الله جميعاً، وبقي العمل الصالح بإذن الله، وماذا عسى هذا الرجل أن يقول لو رثى الأمير هذا اليوم وقد عَرف عنهُ الرحمة والإنسانية وحب الخير وإيثار المصالح. لقد صار الرثاء عادة مألوفة في هذا العصر ولكن بين الرجال الذين يرثون فرقاً عظيماً، فما كل من أُبِّن أو رُثي له المكانة العالية والسيرة العطرة، وشتان أن يتساوى الناس في الذِّكر الحسن، كما هو شتان أن يتساوى الخلق في العمل الصالح، ولقد كان الفقيد - رحمه الله - مثالاً فريداً لرجل قصر حياته كلها على أعمال البر والتُّقى، وهو من الرجال الذين تتباهى بهم الأمم وتشمخ بأنفها إذا ذكروا بين العظماء. ولقد رأيت من جميل صنعه وسخاء يده وكثير معروفه على الناس الشيء العجاب، وهل هناك مثال صادق أكثر من بيوت الله المعمورة والجامعات والمدارس التي أسّسها وبناها على نفقته الخاصة؟ وهل هناك شواهد أكبر على مدينة طبية لا يضاهيها حجماً ولا كماً أي منشأة صحية لدينا، ومؤسسة خيرية قائمة بذاتها، وذلك خلاف الأعمال الخيرية لعامة الناس دونما حدود زمانية أو مكانية أو جنس أو لون، وهو كالغيث أينما حل نفع، وإني على ما في نفسي من البأس واليأس أرجو الله تعالى أن يعوّض هذه الأمة عمّن فقدت بمن يجبر كسرها، هذا هو الموت قدر محتوم على كل حي، ولكن ما أشدّ قسوة الموت على الأحياء حينما يكون الميت من الذين سموا بعقولهم وأعمالهم فوق المستوى الطبيعي في الرجال وتفرّدوا بعبقريتهم. وإذا كان فقد النوابغ يُعَد نكبة على أي أمة فكيف تكون إذاً هذه النكبة إذا كانت خصال النوابغ جميعاً اجتمعت في رجل واحد كما قال الشاعر: الناس ألفٌ منهم كواحدٍ وواحدٌ كالألفِ إنْ أمرٌ عَنَا وهكذا هي مصيبتنا في سلطان بن عبدالعزيز، فقد حمل في صدره من الهمّ والعمل والجد والإنسانية، ما لم يحمله عشرات الرجال. هذه كلمات أقولها لوجه الله وليس لأي اعتبارات أخرى فليس الأمير سلطان - رحمه الله - بحاجة إلى أن يمدح في حياته فكيف بعد مماته، فهو لم يرتفع في حياته إلى قمة المجد إلاّ بتوفيق المولى عزَّ وجلَّ، ولم ينل هذه الثقة العظيمة إلاّ من محبّة الله سبحانه وتعالى، هذه المحبة التي ينزلها الله سبحانه وتعالى ويغرسها في قلوب خلقه، ولقد كان طوداً شامخاً وقامة عالية وفذاً من أفذاذ الرجال، وكان آية في الحكمة وتوقُّد الذهن والنجابة والفقيد - رحمه الله - مهما نعاه الناعون ورثاه الراثون أشهر من أن يُعرف وأغنى الناس عن أن يُوصف، وهو تلك الشخصية التي لها مقامها ليس في بلادنا فحسب، بل في سائر بلدان العالم، ولقد كان له الأثر الكبير في مسيرة أمم وليس أفراد، بحكم المنزلة الرفيعة لسموه وقبوله واحترامه من الجميع، ولن ينسى الجميع هذا الرجل الذي كانت مواقفه من وطنه ومن كل مواطنيه والمقيمين على حد سواء، مواقف تنبض بالعطف والحب فيها حرارة المسؤولية وفيها حدب الراعي، وإنّ صورته بالتأكيد لن تغيب وإنْ غاب شخصه، وسيظل اسمه مشرقاً لامعاً في تاريخ الإنسانية وتاريخ العطاء والعمل والبناء. إنّ سيرة الفقيد لو قيّض الله من يكتبها، فإنّ مئات المجلدات لن تستوعبها فماذا عسى الكاتب لها أن يدرك، وقد كان رجل دولة تسنّم مهام العمل شاباً يافعاً كأمير للرياض في عهد والده المغفور له بإذن الله الملك عبدالعزيز - طيّب الله ثراه - ثم ما تبوأه من مسؤوليات ومهام على مدى سبعة عقود من الزمن بعد ذلك، وما تصدّى له من أعمال خيرية وأنشطة عديدة لا يتسع المجال لتصنيفها فضلاً عن حصرها وعدِّها، والمجالس العليا التي رأسها وأدارها، هكذا كان مع ما له من الشمائل والخصال الحميدة والخلق الكريم والعمل المحبوب، ما يرجى له بها من الرحمة والغفران وعلوّ الدرجات، وإنّ محاسن الفقيد أكبر من أن تُذكر في كلمات، ولعلّ الله أن يجزيه عمّا قدّم والله سبحانه وتعالى لا يضيع أجر المحسنين ولا أجر المصلحين، والله سبحانه وتعالى يقول {إِنَّا لاَ نُضِيعُ أَجْرَ الْمُصْلِحِينَ}. إنّ سيرة الأمير سلطان - رحمه الله - سيرة عطرة وهو من عظماء الرجال ودهاتهم، ولن يفي الجميع مهما كتبوا عن سيرته ومسيرته ولا عن منجزاته الحضارية والإنسانية، ولكنها زفرات محب وتجارب شخصية عايشتها وتشرّفتُ بالانتساب إلى مدرسة سلطان بن عبدالعزيز، ورغبت أن أبثّ حزني ومصابي في هذه الكلمات التي لا تفي بحق «سلطان الخير» فأعظم الله لنا وللجميع الأجر في الفقيد الغالي وجعله من الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصدِّيقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقاً و{إِنَّا لِلّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعونَ}. منصور بن محمد العُمَري - مدير العلاقات العامة بالشئون الخاصة لسمو ولي العهد سابقاً