السلطات الجديدة في سوريا تطلق عملية بطرطوس لملاحقة «فلول النظام المخلوع»    غوارديولا راضٍ عن أداء مانشستر سيتي رغم استمرار نزيف النقاط    طارق السعيد يكتب..من المسؤول عن تخبطات هيرفي؟    عمومية كأس الخليج العربي تعتمد استضافة السعودية ل"خليجي 27″    وزارة الثقافة تُطلق المهرجان الختامي لعام الإبل 2024 في الرياض    السعودية: نستنكر الانتهاكات الإسرائيلية واقتحام باحة المسجد الأقصى والتوغل جنوب سورية    الجيش اللبناني يتهم الاحتلال الإسرائيلي بخرق الاتفاق والتوغل في مناطق جنوب البلاد    "رينارد" يستبعد "الشهراني" من معسكر الأخضر في الكويت    بموافقة الملك.. منح وسام الملك عبد العزيز من الدرجة الثالثة ل 200 متبرع ومتبرعة بالأعضاء    أسبوع أبوظبي للاستدامة: منصة عالمية لبناء مستقبل أكثر استدامة    مدرب قطر يُبرر الاعتماد على الشباب    وزير الشؤون الإسلامية يلتقي كبار ضيوف برنامج خادم الحرمين الشريفين للعمرة والزيارة    تدخل جراحي عاجل ينقذ مريضاً من شلل دائم في عنيزة    الإحصاء: إيرادات القطاع غير الربحي في السعودية بلغت 54.4 مليار ريال لعام 2023م    وزير الخارجية يصل الكويت للمشاركة في الاجتماع الاستثنائي ال (46) للمجلس الوزاري لمجلس التعاون    استخدام الجوال يتصدّر مسببات الحوادث المرورية بمنطقة تبوك    السعودية رئيسًا للمنظمة العربية للأجهزة العليا للرقابة المالية والمحاسبة "الأرابوساي" للفترة ( 2025 - 2028 )    الذهب يرتفع بفضل ضعف الدولار والاضطرابات الجيوسياسية    استمرار هطول أمطار رعدية على عدد من مناطق المملكة    الفكر الإبداعي يقود الذكاء الاصطناعي    «الإحصاء»: 12.7% ارتفاع صادرات السعودية غير النفطية    حلاوةُ ولاةِ الأمر    بلادنا تودع ابنها البار الشيخ عبدالله العلي النعيم    حملة «إغاثة غزة» تتجاوز 703 ملايين ريال    "الثقافة" تطلق أربع خدمات جديدة في منصة الابتعاث الثقافي    "الثقافة" و"الأوقاف" توقعان مذكرة تفاهم في المجالات ذات الاهتمام المشترك    أهازيج أهالي العلا تعلن مربعانية الشتاء    وطن الأفراح    المملكة ترحب بالعالم    شرائح المستقبل واستعادة القدرات المفقودة    منع تسويق 1.9 طن مواد غذائية فاسدة في جدة    63% من المعتمرين يفضلون التسوق بالمدينة المنورة    نجران: «الإسعاف الجوي» ينقل مصاباً بحادث انقلاب في «سلطانة»    أمير نجران يواسي أسرة ابن نمشان    العناكب وسرطان البحر.. تعالج سرطان الجلد    فرضية الطائرة وجاهزية المطار !    «كانسيلو وكيسيه» ينافسان على أفضل هدف في النخبة الآسيوية    لمن لا يحب كرة القدم" كأس العالم 2034″    واتساب تطلق ميزة مسح المستندات لهواتف آيفون    المأمول من بعثاتنا الدبلوماسية    مسابقة المهارات    تدشين "دجِيرَة البركة" للكاتب حلواني    إطلاق النسخة الثانية من برنامج «جيل الأدب»    نقوش ميدان عام تؤصل لقرية أثرية بالأحساء    اطلاع قطاع الأعمال على الفرص المتاحة بمنطقة المدينة    ما هكذا تورد الإبل يا سعد    أفراحنا إلى أين؟    آل الشيخ يلتقي ضيوف برنامج خادم الحرمين للعمرة والزيارة    الزهراني وبن غله يحتفلان بزواج وليد    الدرعان يُتوَّج بجائزة العمل التطوعي    أسرتا ناجي والعمري تحتفلان بزفاف المهندس محمود    اكتشاف سناجب «آكلة للحوم»    دور العلوم والتكنولوجيا في الحد من الضرر    خادم الحرمين وولي العهد يعزّيان رئيس أذربيجان في ضحايا حادث تحطم الطائرة    منتجع شرعان.. أيقونة سياحية في قلب العلا تحت إشراف ولي العهد    مفوض الإفتاء بجازان: "التعليم مسؤولية توجيه الأفكار نحو العقيدة الصحيحة وحماية المجتمع من الفكر الدخيل"    نائب أمير منطقة مكة يطلع على الأعمال والمشاريع التطويرية    إطلاق 66 كائناً مهدداً بالانقراض في محمية الملك خالد الملكية    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



الجانب السياسي في شخصية المؤسِّس الملك عبد العزيز
كرَّس مبدأ الشورى والحوار الفكري
نشر في الجزيرة يوم 23 - 09 - 2011

كنتُ قد نشرت ثلاثة مقالات من قبل عن الجوانب (الإنسانية، الاجتماعية والأمنية) في شخصية المؤسِّس الملك عبد العزيز بن عبد الرحمن بن فيصل آل سعود، طيّب الله ثراه، تناولت فيها إشارات عابرة، ووعدت القراء الأعزاء بمواصلة هذه المقالات التي تتناول مختلف الجوانب الشخصية للمؤسِّس، شكراً لله العلي القدير، الذي أنعم علينا ببطل مقدام كالملك عبد العزيز آل سعود، الذي أسّس هذا الوطن العزيز الغالي، الذي يحق لنا جميعاً أن نفخر به، ونباهي الأمم بعظمته، وحدّد معالمه، وأرسى أسسه، وثبّت قواعده على مبادئ كتاب الله العزيز وسنّة نبيه المصطفى صلى الله عليه وسلم اللذين يمثلان دستور هذه الدولة الفتية التي قامت على العقيدة السمحة منذ ثلاثة قرون إلاّ قليلاً، عندما أسّس الإمام محمد بن سعود - يرحمه الله - الدولة السعودية الأولى في بلدة الدرعية عام 1157ه (1744م)، إثر مبايعة الشيخ محمد بن عبد الوهاب له في ذلك اللقاء التاريخي الراسخ دوماً في ذاكرة كل السعوديين، الذي جمع بين الأمير والشيخ.
نعم.. أقدمت على هذا العمل شكراً لله الكريم المتعال على وافر عطائه وعظيم نعمه، ثم اعترافاً للبطل عبد العزيز آل سعود بحقه علينا، وعهداً صادقاً بالسير على نهجه لتبقى سيرته نبعاً صافياً نتزوّد منه بالقيم والمثل والمبادئ الراسخة، التي ضحى عبد العزيز بكل شيء من أجل تثبيتها لنا وترسيخها في أذهاننا، لتظل نبراساً نتلمّس به خطانا كلما أدلهمّ الليل، وتتابعت الفتن، وفترت الهمة أو خبت جذوة الطموح.
أجل.. وعدت القراء الأعزاء بذلك، وأنا ملتزم بوعدي إن شاء الله، وعاقد العزم على الوفاء به مهما تزاحمت المسؤوليات، وكثرت مشاغل الحياة، وضاق الوقت حتى عن أن يتنفّس المرء بعمق ليريح رئتيه المتعبتين من الركض المتواصل صباح مساء، وعليه سوف نستعرض اليوم معاً جانباً آخر مهماً في شخصية عبد العزيز الثرية الغنية بالمواقف والبطولات النادرة، والرؤى والأفكار النيرة المفعمة بالخير والإنسانية والذكاء اللماح والطموح الذي لا حدود له، كل ما هو مشرق وإيجابي، فقد كان الرجل عنواناً لكل الصفات الطيبة والخلال الكريمة التي أعجزت محصيها.
أُمّة كاملة في رجل:
نعم.. اليوم، نستعرض الجانب السياسي في شخصية المؤسِّس الملك عبد العزيز آل سعود، وليس ثمة شك أنّ الجميع يظن أنّ هذا هو أهم جانب في شخصية الملك عبد العزيز، غير أنّ من يقرأ تاريخ هذا الرجل الصالح والبطل الهمام، ويتأمّل سيرته، يصعب عليه أن يجزم قاطعاً الشك باليقين، أنّ هذا الجانب أو ذاك، يطغى على الجوانب الأخرى في شخصية المؤسِّس المتعددة الجوانب، ولهذا وصفه كثيرون، وهم محقِّون، أنه كان أُمّة كاملة تامة مجتمعة في رجل واحد.
لكن هذا لا ينفي على كل حال، أنّ الجانب السياسي، كان أكثر الجوانب ظهوراً وإشراقاً وتأثيراً في شخصية عبد العزيز الغنية الثرية.
والدليل أنني عندما نشرت مقالي الأول من هذه السلسلة المباركة عن (الجانب الإنساني في شخصية المؤسِّس)، هاتفني كثير من الإخوة المهتمين بالرأي العام والمتابعين لما تتناوله الصحافة، شاكرين ومثنين ومقدّرين لذلك الجهد المتواضع، الذي أرى أنه مهما كان، يظل أبداً دون الواجب تجاه حق عبد العزيز علينا، مؤكدين أنّ العمل الإنساني أبرز سمات المؤسِّس، طيّب الله ثراه، معدّدين مآثرة في هذا المجال، ثم ما لبثت قليلاً حتى ظهر مقالي الثاني، الذي تناولت فيه (الجانب الاجتماعي في شخصية المؤسِّس)، فتلقّيت سيلاً من الاتصالات من بعض أولئك بالإضافة لآخرين، مؤكدين الرأي ذاته، وقيل الشيء نفسه عندما ظهر مقالي الثالث بعنوان (الجانب الأمني في شخصية المؤسِّس)، وهكذا سوف تتكرر الآراء نفسها مع كل مقال يتناول جانباً ما في شخصية المؤسِّس الفريدة الثرية، المفعمة بكل الجوانب الشخصية البطولية في جميع مجالات الحياة.
وأجزم صادقاً أنّ كل من يتأمل سيرة المؤسِّس، ويدرس تلك الجوانب المتعدّدة في شخصيته الكريمة المباركة، سوف يحتار في ترتيبها حسب طغيان بعضها على بعض، إذ كلما تأمّل المرء جانياً، ظنّ أنه يطغى على الجوانب الأخرى، وهكذا الحال مع بقية الجوانب.. وليس هذا مجرّد رأي أو انطباع شخصي، بل هو حقيقة راسخة كالشمس في رابعة النهار، أكدها علماء الصوصولوجيا من أبناء هذا البلد، وغيرهم من المهتمين بدراسة سيرة الأبطال ومسيرة حياتهم.
فقد كان عبد العزيز وحيد زمانه، وعلامة فارقة بين أبناء جيله، ليس في الجزيرة العربية وحدها فحسب، بل في سائر البلدان العربية والإسلامية.
فها هي السياسة والنزعة القيادية تتلبّس عبد العزيز منذ كان طفلاً يافعاً، يلعب مع أقرانه ببراءة الأطفال في تلال نجد ورباها، إذ كانوا عند اجتماعهم للعب والسمر ليلاً يتصايحون: أنا مع من ؟ أنا ألعب مع من ؟ فكان كل واحد منهم مشغولاً بموافقة آخر يقبله لكي يلعب معه، إلاّ عبد العزيز.. كان يهتف فيهم قائلاً: من يلعب معي ؟
إذاً هو يريد أن يقود ويوجِّه، لا أن يقوده الآخرون ويوجّهوه، فحمل السيف في تلك السن اليافعة، ولعب به، وركب الخيل، وامتطى النياق، والتف حول رفاق له، فكان المتقدم عليهم في ألعابهم والزعيم فيهم.
ويؤكد هذا الزركلي في كتابه (شبه الجزيرة في عهد الملك عبد العزيز)، إذ يقول: (حدثني محمد بن بليهد بأخبار عن عبد العزيز، قال: في أثناء تغرّب الإمام عبد الرحمن الفيصل عن الرياض، جلس عشية يوم وحوله بعض خاصته، فجرى الحديث عن أبنائه، فتكلم الحضور وبينهم مانع بن جمعة العجمي - من رجالات العجمان - لم يتكلم، فقال له الإمام: ما ترى يا مانع ؟ فقال: إذا أراد الله عزاً للمسلمين، فهو على يد عبد العزيز، فقال عبد الرحمن: وما يدريك ؟ قال: رأيت فتيان الحي يتهيأون ليلعبوا "اللحي" وقد انقسموا فريقين، فسمعت أكثرهم - ومنهم بعض أبنائك - يقول: من أنا معه ؟ وسمعت عبد العزيز يقول: من هو معي ؟).
وحتى عندما استقرت أسرة آل سعود في الكويت، يؤكد حافظ وهبة، أن عبد العزيز بزّ من عاصروه ورافقوه في طفولته هناك، إذا كان يفوقهم نشاطاً وذكاءً، وكان يتزعّمهم دائماً في الألعاب المألوفة لمن كان في سنه.
وعندما سأل الشيخ عيسى بن علي آل خليفة، حاكم البحرين يومئذٍ، عبد العزيز ملاطفاً، وربما مواسياً، وكان عبد العزيز ساعتئذٍ فتىً يافعاً: أيهما أحسن، قطر أم البحرين ؟ أجابه عبد العزيز دون تردُّد: الرياض أحسن منهما، فقال الشيخ عيسى: سيكون لهذا الغلام شأن، ولم تكن الرياض جميلة في عيني عبد العزيز فقط لأنها مسقط رأسه، وأرض الآباء والأجداد، وحبه الكبير، وإنما كانت جميلة أيضاً في عيون كل من رآها من عرب وأجانب، منذ أن دشّنها تركي بن عبد الله آل سعود عاصمة للدولة السعودية الثانية، وصدقت نبوءة الشيخ عيسى ومانع العجمي، وغيرهما ممن أدهشهم ذكاء عبد العزيز المتوقّد في طفولته، فكان له شأن عظيم في سياسة المنطقة والعالم.
أوائل مشاركاته السياسية:
ولهذا لا غرو أن تكون أول مشاركة له في الحياة السياسية العامة، وهو في الرابعة عشرة من عمره، عند خروجه مع عمه والشيخين عبد الله بن عبد اللطيف وحمد بن فارس لمفاوضة ابن رشيد، وعقد الصلح معه عندما حاصر الرياض في مستهل عام 1308ه (1890 م).
أما أول سفرة لعبد العزيز فقد كانت إلى الشيخ عيسى بن علي آل خليفة، شيخ البحرين، عندما أرسله والده الإمام عبد الرحمن، ليستأذن شيخ البحرين في إقامة نساء آل سعود إلى جواره، كما بعثه والده إلى الهفوف (مركز الأحساء) وهو فتىً يافعاً، وكانت آنئذٍ تابعة للدولة العثمانية، ليفاوض الأتراك لكي يسمحوا له ولرجاله بالإقامة فيها، أو في جوارها.
أجل.. كان عبد العزيز سياسياً من طراز فريد، صادقاً في قناعاته، صادقاً في كلماته، لم يحاول مطلقاً أن يدجل باسم الإسلام أو التراث، ولم يحاول أبداً إخفاء أفكاره أو أهدافه، لأنه لم يكن يستحي منها.
ولأنّ كل عرق في عبد العزيز كان ينبض بالسياسة التي تجري في جسده مجرى الدم، فقد أدرك في وقت مبكر الدور الذي لعبه انشقاق البيت السعودي في التعجيل بانهيار الدولة السعودية الثانية، وقد بدأ الشقاق في عصر عبد الله بن سعود، ثم تأكد بصراع الإخوة والأعمام وأولاد الأعمام حتى وصل إلى ذروة المأساة بعد وفاة الإمام فيصل بن تركي، ولهذا قرر عبد العزيز بنظرته السياسية الثاقبة، حسم القضية من البداية، لكي يتفرّغ لمنازلة أعداء البيت السعودي، الذي لا يجوز له أن يدخل هذه المعارك وهو منقسم على نفسه، فلما استعاد عبد العزيز الرياض في عملية تحمل مسؤوليتها كاملة، قراراً وتنفيذاً، بادر والده الإمام عبد الرحمن بالتنازل له عن الإمارة، وكان ذلك قراراً موفقاً وحكيماً، إذ من مصلحة البيت المالك ورسالته الخالدة أن يطرح اسم جديد بدأ تاريخه السياسي بنصر أقرب للأعجوبة من الحقيقة، ومن جهة أخرى، إذا قبل الإمام عبد الرحمن عرض ابنه واستأنف إمارته، لأصبح كل أولاده شركاء لعبد العزيز في الميراث، الأمر الذي قد يفتح باب الصراع التقليدي بين الإخوة، لكن التأكيد على أنه انتصار عبد العزيز الخاص، له وحده، لا يشاركه فيه أحد، إذ هو الذي صمّم، وهو الذي نفّذ، وهو الذي انتصر بعون الله وتوفيقه، وبالتالي أصبحت الإمامة والقيادة والإمارة له وحده، وقد أنهى هذا المبدأ الذي تم إقراره في اللحظات الأولى من مسيرة عبد العزيز، وعلى يد صاحب الحق في الملك، أي احتمال لمنازعة الأشقاء، وجعلهم يلتفون جميعاً حول القائد عبد العزيز، وليس الشريك في ميرات عبد الرحمن الذي أدرك أنها دولة عبد العزيز.
بناء القوّة الذاتية:
وهكذا انطلق عبد العزيز من اللحظة الأولى طارحاً سياسة تستهدف بناء القوة الذاتية، وتحقيق الوحدة الإقليمية وتنفيذ الرسالة المتوارثة، لأنه أدرك بحسه السياسي الفريد، أنّ القوة الذاتية وحدها هي القادرة على تحجيم تأثيرات القوى العالمية، ومنع السقوط في درك تبعيّتها، كما حدث لكل شيوخ الخليج والجزيرة وسلاطينهما.
ونجا هو وحده، لأنه استطاع بناء أكبر قوة ذاتية عرفها العالم العربي يومئذٍ، وقد أدرك بفضل حاسته السياسية المرهفة، لعبة الأمم والتفوّق الساحق لبريطانيا، وانهيار الدولة العثمانية، فاستفاد من هذا الواقع من دون أن يسقط في خطيئة التحوّل إلى أداة لبريطانيا، بل بدا في أكثر من موقف، وكأنه يوظف الإمبراطورية البريطانية لخدمة أهدافه هو.
ولهذا لا نستغرب حرصه على وحدة المسلمين وحضّهم على العمل وعدم الاكتفاء بلعن الشيطان الذي يفرّقهم، أنصتوا إليه مخاطباً الحجاج في 15 من ذي الحجة عام 1351ه
(ابريل 1933م): (.. أما الادعاء أن الأجانب هم سبب هذه الفرقة وهذا التخاذل، فما هو بصحيح، لأنّ المسلمين والعرب، إذا كانوا في منعة من التعاضد والتكاتف، فليس هناك من قوة في مقدورها مهاجمتهم وإذلالهم ... إنّ مصائبنا من أنفسنا لأننا نحن أعداء أنفسنا، والأغيار لم يقدروا على إذلالنا إلا ّبعد أن رأوا منا العداوة لبعضنا، فاللوم واقع علينا لا محالة).
فتأمّلوا معي هذه النظرة السياسية الثاقبة التي شخصت واقع العرب والمسلمين اليوم قبل ثمانين عاماً تقريباً.
واسمعوه أيضاً يضيف في موقف آخر: (... أما ادعاء أولئك المتفرنجين من المسلمين أنّ التمسك بحبل الدين يرجع بنا القهقري، فهو ادعاء باطل وقول مكذوب، لأنّ الدين لا يمنع الناس عن تعلم الصناعات وما شاكلها، بل هو يحث عليها في مواضع كثيرة من محكم آياته).
ويؤكد: (... أما التمدّن الذي فيه حفظ ديننا وأعراضنا وشرفنا، فمرحباً به وأهلاً، وأما التمدن الذي يؤذينا في ديننا وأعراضنا، فوالله لن نرضخ له ولن نعمل به ولو قطعت منا الرقاب).
تلك لمحة موجزة وإشارة عابرة لنظرة عبد العزيز السياسية للدول الكبرى وعلاقته بها، التي أسسها وفق ما يخدم مصلحة بلاده ويحقق أهدافه في تأسيس وطن راسخ آمن وموحّد.
الشورى والحوار والمؤتمرات:
أما على الصعيد الداخلي، فقد كان عبد العزيز أول حاكم عربي لجأ إلى أسلوب المؤتمرات العامة لمناقشة القضايا العامة للدولة والخلافات الداخلية، كما مارس عبد العزيز مبدأ الانتخاب وحث عليه، وشرح لمواطنيه الأسلوب الصحيح لممارسته قائلاً: (دعونا لأعضاء مجلس الشورى الجديد، فالواجب يقضي ألا ينقاد الإنسان، في مثل هذه الحال إلى قلبه، لأنّ القلب يكون دائماً ميالاً للهوى، يجب أن تنتخبوا الأكفاء من أهل الخبرة، بحيث إذا قام هذا المجلس على أساس قويم تجني البلاد منه فوائد جزيلة، يجب أن تنتخبوا من تعتقدون فيهم الإخلاص في العمل والمقدرة في الدفاع عن حقوق الأهلين، لأنّ الحكومة تأخذ حقها على كل حال، أما الأهلون فهؤلاء أعضاء مجلس الشورى هم الذين سيكونون وكلاء عن الشعب، فإذا أحسنتم اختيارهم وانتقاءهم، أحسن هؤلاء الدفاع عن حقوقكم، فأحسنتم بذلك للبلاد والعباد).
وعليه، يمكننا إيجاز أهم الخصائص العامة للفكر السياسي لهذا البطل الفذ والقائد التاريخي التي كانت تحكم توجهاته السياسية وترتكز على إيمان راسخ بالعقيدة الإسلامية والتقيد بها، كما أجمع عليها كل من كتب عنه، في:
1- الحاسة السياسية الطبيعية التي كان يتمتع بها، ومكّنته من قراءة الأحداث وتفسيرها بدقة وبالتالي التحرك بالسرعة المطلوبة لانتهاز الفرص المتاحة، وعلى كل حال، هي خاصية يولد بها المرء ولا يكتسبها، إذ يهبها الله لمن يشاء من عباده.
2- حكمته السياسية التي كانت أهم صفة تثير الاهتمام فيه، وقد مارسها أولاً مع رجال العشائر المستعجلين دوماً والمتشبثين برأيهم، ثم تطوّرت مع اتساع مسؤولياته حتى أصبحت قادرة على مواجهة أي موقف.
3- القدرة على تقويم المواقف، والحسم في اتخاذ القرارارت المصيرية.
4- الصراحة والوضوح، إذ كان عبد العزيز رجلاً واحداً داخل بلاده أو خارجها وصاحب وجه واحد.
5- الاهتمام بامتلاك كل أسباب القوة الذاتية، وعدم الاعتماد على القوة المسلحة وحدها وسيلة لإخضاع الخصم.
6- الحرص على تتبع الأحداث والتطوّرات الدولية، والقدرة على إجراء التحليلات السياسية.
7- القدرة الفائقة على استشراف المستقبل، إذ كان يرى أنه من الممكن توقع الأحداث السياسية المستقبلية استناداً إلى استقراء التاريخ.
8- القدرة على التحكم في مشاعره والمرونة في علاقته مع الآخرين، من دون أن تكون هذه المرونة السياسية على حساب الثوابت التي كانت تشكّل الإطار السياسي الذي تنطلق منه السياسة الخارجية لبلاده.
9- إصراره على مواقفه وتمسّكه بسياسة المعاملة بالمثل.
10- وضوح الفكرة وسلامة الحديث.
وانطلاقاً من هذه الخصائص العامة للفكر السياسي لعبد العزيز، نجد أنّ سياسة بلاده الخارجية قد اتركزت على أهم المحاور الآتية:-
1- الابتعاد عن الدخول في صراعات مع الدول الأخرى، وعدم التدخل في شؤون الغير وبالمقابل عدم السماح للغير بالتدخل في شؤون بلاده.
2- احترام القوانين والأعراف والمواثيق الدولية، والإيمان بالسلام والتعاون الدوليين، والعمل على حل المشكلات والمنازعات بالوسائل السلمية.
3- الهدوء وتطبيق الدبلوماسية الوقائية والسياسية المتوازية في التعامل مع الآخرين.
4- تبنّي منهج توفيقي للسياسة الخارجية كأحد السمات البارزة في الدبلوماسية السعودية.
5- تبنّي سياسة التعاون والتفاهم مع الأشقاء العرب ودعم التضامن العربي، وتأييد كافة القضايا العربية وفي مقدمتها قضية فلسطين.
6- الدعوة إلى التضامن الإسلامي.
7- الحرص على إقامة علاقات طيبة مع الدول الكبرى وفي مقدمتها أمريكا وبريطانيا، وتسخير تلك العلاقات لخدمة بلاده وشعبه.
وبعد: هذا هو عبد العزيز السياسي الماهر، الذي كانت لديه قدرة فائقة على احتواء الآخرين من شتى الثقافات والانتماءات والخلفيات السياسية، فأخضع البدو بشهامته وسخائه ورجولته، وبايعه الريحاني اللبناني المسيحي الأمريكي الجنسية، وفيلبي الملحد ممثل الإمبراطورية، وتلاميذ محمد عبده والأفغاني في العالم العربي، وعشّاق الخلافة من مسلمي الهند، وثوار ليبيا، والوفديون في مصر، والوطنيون في سوريا والعراق.. كلهم بايعوه زعيماً للعالم العربي واعتبروه المنقذ الوحيد للعالم الإسلامي، بسبب ما أعلنه من قيم ومبادئ، وما ينتهجهه من سياسة واعية حكيمة ومتزنة.
أجل.. هذا هو عبد العزيز السياسي المحنك الذي تفاوض مع الدول الكبرى على أسس متساوية، وكوّن علاقات ودية مع جيرانه كالعراق وتركيا ومصر وإيران، ومع الدول الغربية أيضاً وفي مقدمتها بريطانيا، فضمن لبلاده الاستقرار السياسي الخارجي، وحقق للجزيرة العربية احترام العالم أجمع، واستطاع في سنوات قلائل أن يجعل من مجموعة العناصر المتحاربة كتلة تقف على قدم المساواة مع غيرها في مجموعة الدول الحديثة.
نعم.. تلك هي السياسة الراسخة الراشدة التي حدد منهجها عبد العزيز، وما تزال مشعلاً يحدد الإطار السياسي العام للدولة السعودية الفتية، وسوف تبقى هكذا إلى الأبد إن شاء الله، سلّماً ترتقي به بلادنا قمة المجد والسؤدد.
مدير إدارة الثقافة والتعليم للقوات المسلحة


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.