استوقفني ما كتبه أخي الدكتور عبدالعزيز بن صالح العسكر (الخميس 17 شوال 1432 العدد 14231) حول جملة كتبها أحد الطلاب وهي قوله «شرشح الله عدوين المسلمين»، وقد أنكر استعماله للفظين (شرشح) و(عدوين)، وسكت عن الخطأ النحوي، وهو الإبقاء على النون مع الإضافة. وذكر الدكتور أن (شرشح) «لفظ أخذ من عامية سوقية ساقطة»، ولست أدرك الحدّ الفاصل بين ما هو عاميّ (أي لهجيّ) وفصيح إلا على مستوى الأصوات، والإعراب، أما على مستوى المعجم فليس يكفي أن نبحث عن اللفظ في معاجمنا ثم نحكم عليه بالفصاحة أوعدم الفصاحة، إذ المسألة متعلقة بجذور الكلمة وبنيتها الصرفية، ولا جدال أن المعجم العربي قاصر في جمعه الألفاظ العربية من بيئاتها الشاسعة، وأصحاب اللغة القدماء والمحدثون تضعون من الألفاظ ما يعبرون به عن أغراضهم. وإن كانت العربية منذ الجاهلية ضمت الدخيل من لغات أخرى وورد في أفصح نصوصها النثرية والشعرية فأي بأس في أن تدخل من لهجاتها ما يناسبها، فيستعمل في الفصيحة كما استعمل الدخيل قديمًا وحديثًا، وإن من التقصير إهمال ما في العاميات واللهجات من ألفاظ معبرة ودقيقة في دلالاتها، بل من الغريب أن توصف بأنها ساقطة سوقية، فما السقوط فيها؟ وما السوقية؟ اللهجة مستوى لغوي مختلف عن الفصيح ولكنه مستغنٍ عن الإعراب، وهذا يجعله مختلفًا؛ ولكنه لا يجعله ساقطًا. ثم أنكر الدكتور صلة (شرشح) بأصلها العربي وهو (شرح) ووّهم من قال بذلك الأصل، قال: «أما كلمة شرشح فقد وهم أحد الكتاب حينما زعم أن لها أصلاً فصيحًا، حيث ذكر أن المعاجم اللغوية لا تذكرها ثم ذكر أن أحد المعاجم أورد ما يفهم منه أنها مرتبطة أو متفرعة من كلمة (شرح)، وذلك خلط واضح، فتصاريف كلمة (شرح) تعني الوضوح والبيان، فالشرح توضيح الغامض وبيان المبهم وتفسير الغريب، أما كلمة (شرشح) في الاستعمال السوقي العامي فيقصد بها في الغالب: العتاب واللوم وبيان العيوب والمآخذ والانتصار على الخصم بسلاطة اللسان وبذاءته.. فما وجه القرب بين هذا وبين كلمة (شرح)؟!»؛ ولكن الذي يقف على مادة (شرح) في (لسان العرب) يقرأ أول ما يقرأ قوله: «الشَّرْحُ والتَّشْريح قَطْعُ اللحم عن العضو قَطْعًا، وقيل قَطْعُ اللحم على العظم قطعًا والقِطْعَةُ منه شَرْحة وشَرِيحة وقيل الشَّرِيحةُ القِطعةُ من اللحم المُرَقَّقَةُ. ابن شميل: الشَّرْحة من الظِّباء الذي يُجاء به يابِسًا كما هو لم يقَدَّدْ يقال خُذْ لنا شَرْحمن الظِّباء وهو لحم مَشْرُوح وقد شَرَحْتُه وشَرَّحْتُه والتَّصْفِيفُ نَحْوٌ من التَّشْريح وهو تَرْقِيقُ البَضْعة من اللحم حتى يَشِفَّ من رِقَّتِه ثم يُلْقَى على الجَمْر». فالصلة واضحة كل الوضوح بين (شرشح) وشرّح، فالشرشحة تقطيع مجازي، وإن من اللفظ ما هو أمضى في تقطيعه من المدى. وليست الشين في (شرشح)سوى إبدال لأحد المضعفين من (شرّح)، وهو أمر يفسر طائفة كبيرة من الأفعال الرباعية، مثل: بذّل-بهذل، جرّ-جرجر، حلّل-حلحل-لحلح، حرّش حربش، حرّص- حرمص، خرّب- خربط، خرّش- خربش-خرمش، رقّط-رنقط، شخّط-شخبط، شخمط، عرّش-عرمش، عفّط-عرفط، قزّع- قنزع، قرّط- قرمط، قرّد-قردن،قصّل -قصمل، كسّر- كسمر، هلّم- لهلم. وتوقف الدكتور عند جمع (عدوّ) جمع سلامة قال: « ثم لفظ (عدوين)، فقد أنجز الطالب جمع كلمة (عدو) على (عدوين) وما أغرب هذا الجمع وما أشد بعده عن النحو والفصاحة، وما أبعد كاتبه عن تطبيق ما تعلمه!! وكأن هذا الطالب لم يسمع كلمة (أعداء) ولم يقرأها في القرآن الكريم!!»، والدكتور محق في أنّ الجمع المستعمل في التراث هو الجمع المكسر، والحجة أن ما يستوي فيه المذكر والمؤنث لا يجمع جمع سلامة، ولكن (عدوّ) شذّت عن هذا الأصل، جاء في (شرح الشافية) للرضي: «وإنما أدخلوا التاء (عدوّة) وإن كان يستوى المذكر والمؤنث في هذا البناء حملا له على صديقة»؛ ومن أجل ذلك كان الجمع السالم غير مدفوع؛ لأنه قياسيّ في مثل ذلك، فلك أن تقول: (عدوّون-عدوّين- عدوّات)، وأحسب أن اللهجات حين استعملت جمعه السالم على صواب. بقي أن أحمد لأخي غيرته على العربية الفصيحة ومدافعته عنها في هذا الزمن الذي تنكر لها أهلها وهجرها أبناؤها حين وجدوا أن أهل الحلّ والعقد لم ينصروها وجعلوا عصب العلم والعمل في يد لغة أجنبية، وهو أمر لا تفعله الأمم الأخرى، فكيف تفعله أمة اختيرت لغتها للرسالة العالمية التي عماد إبلاغها اللغة العربية.