حينما ينفلت الأمن تضطر الحكومات إلى تطبيق قانون الطوارئ، وهو قانون مؤلم يجعل المواطن على كفّ عفريت الشرطة، وقد يُستغل في حدوث انتهاكات لا إنسانية، من اعتقالات غير قانونية، ووضع اليد على أملاك مواطنين بحجة حالة الطوارئ، و...و... إلخ. فما الذي يجبر المواطن المصري إلى اقتحام السفارة الإسرائيلية وملاحقة السفيرة الأمريكية، بل حتى السفارة السعودية لم تسلم من مناوشات غوغائية، لن تضيف شيئًا إلى الثورة المصرية، قدر ما تحرفها عن مسارها العظيم، وبحثها عن الحرية والكرامة الإنسانية. في الوقت الذي كان على شباب الثورة المصرية التركيز على تعديلات الدستور وبنوده، والدخول إلى العمل السياسي المشروع من بوابة تأسيس الأحزاب النظامية، والتفكير بوضع البرامج الانتخابية لهذه الأحزاب، والتشديد على موعد الانتخابات الرئاسية ومراقبتها لضمان أقصى حالات النزاهة فيها، بقي معظم هؤلاء في وضع بدايات الثورة، واستمرار الوضع المأزوم والاحتقان الشعبي تجاه كل صغيرة وكبيرة. فانشغال المجلس العسكري كحكومة مؤقتة بمحاكمة الرئيس السابق وأعوانه، وتولي الشعب مهمة اتخاذ قرارات السياسة الخارجية بيده أو بذراعه في حرب السفارات، سيعزل مصر عن العالم الخارجي، وسيفتح الباب لاتهامات أجنبية بأن المجلس لم يعد قادرًا على حماية البعثات الدبلوماسية، ولا على حماية حدود البلاد مع جيرانها!. تلك الثورة النبيلة التي استخدمت الوسائل السلمية لتحقيق أهدافها، وميدان التحرير الذي حرَّر مصر من النظام السابق ورموزه، فقط بالوقوف والاعتصام والهتافات واللافتات المعبِّرة، لماذا تحوَّلت الآن إلى اقتحامات وتكسير وعنف؟ لمصلحة من هذا الذي يحدث في مصر الآن؟ هل هو إشغال الرأي العام المصري والعربي عن ديمقراطية منتظرة في مصر؟ هل هو إشغال عن محاكمة الرئيس المخلوع ورموزه؟ هل هو صرف العالم عمَّا يحدث في سوريا من مجازر وحشية بحق المواطنين، وفي غزة من قتل وحصار وتجويع؟ لا أعتقد أنَّ هؤلاء من الحماقة أن يتأثروا بما حدث في تركيا من طرد السفير الإسرائيلي، لأنَّ العمق الإستراتيجي للعلاقة بين تركيا وإسرائيل لا يمكن أن يتأثر بهذه الزوبعة، التي لن يطول الأمر دون ترميمها، وإعادة الأمور إلى نصابها، فضلاً عن أن ما حدث تم خارجياً بوسائل حوار ومطالبات رسمية بالاعتذار عمَّا حدث تجاه أسطول الحرية. ألا يترك هؤلاء الأمر للمجلس العسكري المفوض بقيادة البلاد خلال الفترة الانتقالية إلى برِّ الأمان، فهو الذي يستطيع الاحتجاج والمطالبة برد الاعتبار للجنود المصريين الشهداء، واستخدام الطرق الدبلوماسية والضغوط السياسية واستمالة الرأي العام الدولي لذلك؟. لا أحد يريد لهذه الثورات في تونس ومصر وليبيا وسوريا واليمن أن تنصرف عن أهدافها، ولا أحد يريد أن تتدخل قوى أجنبية في بلادنا خلال ظروف انشغالنا بإعادة ترتيب بيوتنا، وذلك بحجة حماية مواطن أو حتى دبلوماسي. كلنا نتمنى أن تنجز هذه الثورات أهدافها، وننتقل إلى عالم ديمقراطي تسوده ثقافة الانتخابات والعمل المؤسساتي المدني، فأن تُختطف الثورة المذهلة لشباب مصر الطموح من قبل آخرين يؤججون الشارع المصري الآن ببياناتهم وخطبهم الرنَّانة، هو أمر سيورط البلاد ويدخلها في أزمات سياسية خارجية هي في غنى عنها، مع دول لم يحن الوقت بعد للتعامل معها بشكل حرٍّ ومستقل، بل سيصرف هؤلاء إلى محاكمة الأحداث السياسية الطارئة بدلاً من التركيز على الرئيس المنتظر انتخابه، والحكومة التي ستقود البلاد في عصرها الجديد، وفي ذلك ضياع لجهد الثورة وهدفها الرئيس في اقتلاع النظام السابق وتأسيس انتخابات حرة ونزيهة لكل فترة رئاسية مقبلة.