عبد الرحمن محمد السدحان واحد من أصدقاء غازي ورفاق رحلته الطويلة، لم تمر عليه ذكرى غياب زميل الصبا ورفيق الذكريات مرور الكرام فقد انتقى بحسه الأدبي وذائقته الجميلة من بين الكتابات التي رثت الفقيد نثرًا ونظمًا اختار من بينها أنفسها ونظمها في عقد نفيس كتاب حوى بين دفتيه 100 مقالة نثرية وست قصائد مما جادت به القرائح والأقلام عن الفقيد إلى جانب 3 قصائد رثى بهن غازي رحمه الله نفسه وودع بهن دنياه. وقد تنوع كتاب هذه المقالات بتنوع محبي الفقيد وأصدقائه فمن بينهم أصحاب السمو الأمراء والمعالي الوزراء ومنهم المثقفون والأكاديميون ومنهم سعوديون وغير سعوديين، ويعترف السدحان لكل من كتب بالفضل، لكنه اقتصر على ما ذكر خشية أن يمل القارئ. وكون ما حمله الكتاب هو توثيق لمنشورات ربما اطلع الكثير عليها نورد أهم ما في مقدمة الكتاب الذي حمل عنوان (غازي القصيبي الحاضر الغائب في ذاكرة القلم). وُصِف فقيد الوطن وقلعة الإبداع الدكتور غازي بن عبد الرحمن القصيبي رحمه الله ذات يوم بأنه (استثناء)، وقد كان حقاً وصدقاً استثناء عبر ما عرف عنه وبه: صفات وقدرات وسيرة حياة! كان التفوق رفيق مشواره الطويل منذ أن نطق شعراً في ربيعه التاسع، مروراً بمراحل التعليم المختلفة ليُعَيَّن أستاذاً جامعياً (1970م - 1974م)، فرئيساً لقطاع السكة الحديد (1974م - 1975م) ثم حمل (وزر) أكثر من مهمة وزارية صعبة، قبل أكثر من أربعين عاماً بدءاً بتوليه حقيبة الصناعة والكهرباء (1975م - 1982م) فحقيبة الصحة (1982م - 1984م)، ثم في وقت لاحق حقيبة المياه والكهرباء (2003م - 2004م) قبل أن ينتهي به المطاف في وزارة العمل بدءاً من عام 2004م وانتهاء في 2010. وخلال الفترة الفاصلة بين خروجه من (حلبة) التحدي الوزاري عام 1984م وعودته إليها في 2003م، مثَّل بلاده بكفاءة واقتدار في كل من المنامة ولندن تمثيلاً جسد هيبة هذا الوطن ومكانته! ذلكم هو الإنسان المتعدد المواهب والأدوار: أديباً ومفكراً مبدعاً ووزيراً، الدكتور غازي القصيبي رحمه الله، وكان إلى جانب ذلك كله نجماً يعشقه الضياء حيثما حلّ. كان يشد الأسماع إذا تحدث والأبصار إذا كتب، وهو المهذب تعاملاً مع من حوله، رئيساً كان أو مرؤوساً أو رفيق عمل أو صديقاً أو ذا قربى! نعم.. ذلكم هو غازي العملاق، تحسبه أول ما تراه بعيد المسافات لا يراه بصر ولا تدركه بصيرة، كبرياء أو ترفعاً، فإذا دنوت منه معرفة وإحساساً إذا هو أرق من نسيم الفجر تعاملاً، وأزكى منه عطراً! نعم.. ذلكم هو غازي قلعة الفكر وقامته المنيفة، وبرغم ذلك يبهرك تواضعه الذي لا يخص به أحداً دون آخر، وكان من أهم خصاله أن يحترم من يختلف معه في الرؤية والرأي، فيجادله جدلا ً حسناً بالكلمة المقروءة والمسموعة، فإما أقنعه أو اقتنع أو تركه لشأنه ثم تعجب فيما بعد وأنت تشاهد وتسمع تواصل أنفاس الود بين الاثنين، وكأن شيئاً بينهما لم يكن! لا يكنُّ لأحد في نفسه غلا ولا ضغينة ولا كرهاً، كانت عفة اللسان ونقاء السريرة وصفاء الوجدان صراطاً مستقيماً يربطه بمن حوله حتى آخر لحظة. شرفت بمعرفته عن كثب عبر نصف قرن تقريباً، بدءًا من لوس أنجلوس الأمريكية، يوم كان كلٌّ منا طالباً للعلم في جامعة جنوب كاليفورنيا، وكنت يومئذ أخطو خطواتي الأولى في صفوفها، فيما كان في أواخر مرحلة الماجستير بتفوق، وقد منحني القرب منه داخل تلك الجامعة وخارجها فرصة لا تعوض لأتعلم عنه ومنه الكثير مما أفادني في مشواري الأكاديمي بدءاً ثم ما تلاه لاحقاً عبر مراحل عمري الأخرى، وكان في كل الأوقات نعم الناصح لي ونعم المشير! أذكر أنه خلال فترة الدراسة الجامعية في لوس أنجلوس تم انتخابه من قبل الطلاب السعوديين والعرب في جامعة جنوب كاليفورنيا ليرأس فرع جمعية الطلاب العرب في أمريكا بالجامعة، واختارني هو (أميناً لصندوق الفرع) الذي لم يكن له مورد مالي ثابت سوى ما تدره رسوم العضوية تحصيلاً متواضعاً من الطلاب أو التبرعات إن وجدت. لم تخْلُ هذه المهمة من بعض الحرج حيناً ومن المواقف الطريفة حيناً آخر، إذ كان بعض الطلاب الأعضاء من سعوديين وعرب يماطلون في دفع رسوم اشتراكاتهم الزهيدة قيمة والثقيلة عبئًا، وكنت بالنسبة للبعض منهم أذكرهم بجلاد الضرائب كلما رأوني، ومن هذا الموقف وحده استمد (الرئيس) غازي بعضاً من ملحه وطرائفه تعليقاً على أدائي المتعثر في تعزيز موارد صندوق الفرع! وذات يوم، لم يستطع رحمه الله أن يقاوم هاجس الدعابة بعد أن شاهدني في حفل للجمعية مرتدياً ربطة عنق جديدة كان سعرها أقل من عشرة دولارات، فابتسم رحمه الله وهو يشير إلي وإلى ربطة العنق متسائلاً: من أين لك هذا يا عبد الرحمن؟ عسى ألا تكون قد (استثمرت) أموال الجمعية في تمويل هذه الربطة الأنيقة! وهنا، سمعت هتافاً صادراً من بعض أرجاء القاعة يردد (نعم، نعم.. فعلها عبد الرحمن) وضحك الجميع.. وضحكت معهم، ثم قلت مدافعاً عن نفسي: (قبّح الله سوء الظن.. أنسيتم أنكم استقبلتم قبل أيام (بدل) الملابس قادماً من مكتب البعثات في نيويورك!! كم أتمنى الاسترسال في الحديث عن بعض مناقب غازي ونوادره وإبداعاته الممتعة شعرها ونثرها جادها وهزلها مما كان يعطر به أي مجلس يغشاه، فيمتع العقول والقلوب معًا بلا ملل. وفي سياق آخر، أود أن أسلط الضوء باختصار شديد على جانب مشرق في سيرة الفقيد الكبير لا يعلمه سوى الله ثم نفر قليل جداً من أقربائه والمقربين إليه، وهو اهتمامه بفعل الخير في أكثر من درب وغاية، فكان - رحمه الله - يبذل من ماله ومن جاهه ما يقيل به عثرة عاثر أو يمسح دمعة حزين أو يرفع حيفاً عن كاهل مظلوم، وكان يفعل كل ذلك في السر أكثر من العلن، ولم أسمعه قط أو أقرأ له يوماً ما ينبىء عن هذا النهج السامي في سيرته، ويأتي جهده القويم في تأسيس الاهتمام بالطفل المعوق في بلادنا على رأس مبادرات الخير، حيث سعَى ونفرٌ من كرام القوم إلى الطفل المعوق هوية وكرامة واعتباراً بعد أن غيّبه التجاهل الاجتماعي أمداً طويلاً، ثم نمت هذه المؤسسة الإنسانية فيما بعد وانتشرت قطوفها، لتعم معظم مناطق المملكة بعون من الله، ثم بدعم كريم من الدولة حرسها الله، وفاعلي الخير في أرجاء الوطن، ولتصبح في عهد رئيسها الحالي رائد الخير وفاعله صاحب السمو الملكي الأمير سلطان بن سلمان بن عبد العزيز حصناً منيعاً للمعوق! اللقاء الأخير مع الفقيد الكبير لن أنسى ما حييت شموخ الإيمان ونبوغ الإنسان وقوة الإرادة في شخصية غازي -رحمه الله- عبر آخر لقاء لي معه مساء الثاني من شهر رمضان المبارك من العام الماضي 1431ه (2010م) وذلك قبل وفاته بثلاثة أيام تقريباً وكان يشغل غرفة ضيقة في عنبر العناية المركزة بمستشفى الملك فيصل التخصصي في الرياض. وكنت قد طلبت من سعادة المشرف على مكتبه، الصديق هزاع العاصمي أن يمكنني من رؤيته لحظات، فن عز ذلك فلن أطمع في أكثر من وقفة أمام باب غرفته داعياً له ومستغفراً، وقد تم لي ما تمنيت، وخلال لحظات تلت وصولي إلى المستشفى، كنت أقف أمامه داخل غرفته معقود اللسان زائغ البصر، وقد راعني في مشهده ما راعني، ضموراً في الوجه، وذبولاً في العينين، وسكينة في اللسان خلتها في تلك اللحظة تلخص لي الآثار المريرة لسكرات المرض الخبيث! لم أستطع أمام ذلك المشهد المهيب أن أعصم لساني عن الكلام تعليقاً على ما رأيت، فقلت له بتلقائية وجدانية حزينة لم أُعِدّ لها من قبل أو أحسب حساباً، وأنا أشد يده إلى صدري حرقة وألماً.. (لا تستحق يا غازي، كل هذا)! لم يدعني رحمه الله أكمل البوح الحزين له بمشاعري، فقاطعني أبو يارا بما يشبه زمجرة الأسد الجريح قائلاً بصوته الحنون المعهود: (لا يحق لك يا عبد الرحمن، أن تقول ما قلت، فما حل بي هو أمر قد قدره الله رب العالمين، ولا راد لما أراده سبحانه) قلت له، وقد ألجمتني عبارته (الوداعية)، وأسرتني شجاعته وإيمانه وشدة بأسه: (ونعم بالله)، ثم دعوت له طويلاً، فيما كان بصري يجول تائهاً في الفضاء المحيط بي مروراً به بدءاً ونهاية، أما عيناه فما انفكتا تحدقان في وجه صديقه المزروء حزناً إلى جانب سريره، وقد أخذ منه الذهول كل مأخذ! ودعت غازي مستأذنًا بالانصراف، وأنا مشدوه بما سمعت ورأيت، وردّ لي التحية بمثلها، وهو يعتصر ابتسامة عنيدة بين شفتيه. وغادرت المكان، وقد تلبسني إحساس غريب بأن ذلك اللقاء ربما كان الأخير مع (مجموعة الإنسان) غازي القصيبي! بعد ثلاثة أيام تلت ذلك اللقاء الحزين، تلقيت في ضحاه اتصالاً هاتفياً من صديق مشترك نقل لي من خلاله النبأ الصاعق برحيل غازي إلى الفردوس الأعلى، وكان ذلك يوم الأحد الخامس من رمضان المبارك 1431ه الموافق 15 أغسطس 2010م.