تحدث الرفايعة في كتابه (ظاهرة العدول عن المطابقة في العربية) فذكر أنه يرد العدول عن مطابقة الخبر المبتدأ جنسًا في القرآن وفي أمثال العرب وأشعارها، ومن الأمثلة التي ذكرها قولهم (الشباب مطيّة الجهل)، قال «والمطية تذكَّر وتؤنَّث، فالبعير مطيّة، والناقة مطيّة، ويبدو لي أنها قضيّة محمولة على المعنى، فقد ذكّر المبتدأ حملا على معنى الخبر، حمل المطيّة، على معنى (المطا)، والمطا: الظهر» (ص133). ولم يكن الباحث بحاجة إلى مثل هذا التأويل؛ لأن المطابقة بين الخبر والمبتدأ لا تجب إلا حين يكون الخبر وصفًا مشتقًّا متضمنًا لضمير يعود على المبتدأ، مثل قوله تعالى {وَاللّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ} [ يوسف-21]، وقد يخالف الخبر المبتدأ وإن كان وصفًا مشتقًّا حين يكون خبرًا عن سببيّ المبتدأ لا المبتدأ نفسه، كقولنا (نبينا عظيمة أخلاقه)، ف(عظيمة) خبر لفظي عن المبتدأ (نبينا)؛ ولكنها من حيث المعنى تخبر عن فاعلها (أخلاقه) التي هي من سبب النبي، وأصل التركيب: (عظيمةٌ أخلاق نبينا) ف(عظيمة) خبر مقدَّم و(أخلاق) مبتدأ مؤخر. وقد يطابق الخبر المبتدأ ولا يعني أنه له، بل لسببيه، كقولنا (نبينا عظيم خلقه)، والدليل على أنه خبر المبتدأ نصب (كان) إياه في قولنا (كان نبينا عظيمةً أخلاقُه) وقولنا (كان نبينا عظيمًا خلقُه). وتوقف عند قوله تعالى وَالنَّارُ مَثْوًى لَّهُمْ [محمد-12]، قال «ويظهر لي أن المثوى اسم مكان، وأن لفظ (المثوى)، والله أعلم، قد حمل على معنى الدّار أو المنزلة، وكأنه في تقدير: والنار دار لهم أو منزلة لهم» (ص139). وليس هذا من العدول عن المطابقة؛ إذ ليس الخبر وصفًا يجب مطابقته للمبتدأ، فلك أن تقول: البيت مثواه، أو الدار مثواه، كما تقول: ابنه يده اليمنى أو ابنته يده اليمنى. ووقف المؤلف عند قوله تعالى {كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ} [الأنبياء-35]، ذكر أنه أخبر بالمؤنث (ذائقة) عن المذكّر (كل)؛ لأنه اكتسب التأنيث من إضافته إلى المؤنث (نفس) كما قال السجستاني الذي جوّز تذكير الخبر مطابقة للمذكّر (كل). وذهب المؤلف إلى أن الإبهام في (كل) ودلالتها على العموم وهب المضاف إليه ما تهبه (أل) الجنسية للاسم، ف(كل نفس) بمعنى (النفس) بما فيه من دلالة على عموم الجنس، ومن هنا يكون الخبر مطابقًا للمبتدأ، وذكر أنه لم يجد «أنّ لفظ (كل) عند إضافته إلى المؤنث، أو عند إسناد الفعل إليه مع إضافته إلى مؤنث، قد أخبر عنه بمذكّر بل جاء الإخبار عنه بالتأنيث» (ص135)، ولكن هذا يحتاج إثباته إلى بحث حاسوبي يتتبع مواضع استعماله؛ لأنه يشبه اللفظ (بعض) في إبهامه الذي استعمل تذكيره وإن أضيف إلى مؤنث كما في (الاشتقاق لابن دريد)، قال: «ويُسمَّى بعضُ الحيّات حَنَشًا» (1: 437). ووقف عند قوله تعالى هُمْ دَرَجَاتٌ عِندَ اللّهِ [آل عمران-163]، وذكر تأويل المفسرين ثم قال «وأجود من هذا ما حمل فيه الخبر على المعنى، فقد حملت (درجات) على معنى (منازل) على حد قول أبي عبيدة في مجازه» (ص136). ولست أرى هذا من العدول؛ لأنّ المطابقة هنا غير واجبة، ولا فرق بين (منازل ودرجات) في المطابقة فكلا الجمعين مؤنث؛ فمنازل جمع منزلة هنا لا منزل، ودرجات جمع درجة. ننتهي إلى أنّ العدول عن المطابقة إنما يكون في الخبر الذي يجب أن يطابق المبتدأ فلا يطابقه، والسؤال: أيقع ذلك العدول؟