منذ الطفولة وأنا أعرفه حرفا نديا جليا، ثريا في عطائه، قلما لا ينضب ولا يشح ولا يهدأ، ولدت وأكلت وشربت ونمت وحلمت وكبرت، وعبد الله بن خميس معي واجدا عرافا رحيما طيبا نقيا لا يعرف غير الحبر والمحبرة، والسطر والمسطرة، زاهدا بسيطا متواضعا، عاريا إلا من الصدق والحقيقة، مفعما بالحياة وعاشقا للإنسان وخادما للمجتمع، من الحرف يخرج، وإلى الحرف يدخل، وما من شيء عنده غير الحرف والإبداع والتألق، الحرف ملاذه ومكانه الوحيد الذي يعشقه، هذا العشق يصل به أحيانا إلى أن يتصوف ذلك المكان ويهيم به وكأنه مكان للحب والجمال والدعة والطمأنينة، الأدب غرفته ومكان خلوده وسر وجوده وإبداعه وتميزه، له قلب من ذهب، وحس يشبه الأحجار الكريمة، وذهن متقد، شعلة من حراك وتحرك، وحتى الإنسانية عنده اشتدت بكثافة عندما اقترب من الموت، ابتداء من باب بيته، وانتهاء بزاوية سريره، له ابتسامة جميلة شكلت هي الأخرى دالة مروجه جيناته ويومياته المكتظة دائما بالهم الاجتماعي والهم الإنساني دون الهم الذاتي، مشحون دائما بسيميائيات وجوده التي ما زالت تؤثث وتؤنس خارطة إبداعه الذي لم يهدأ بالا وترحالا، صبرا ومصابرة ومجاهدة حتى الرمق الأخير، الذي لم يخافه ولم يقلقه، بدليل أنه رحل بهدوء وصمت ودراية، عمل بجد وتفانٍ وإخلاص، مع الجميع بما فيهم النص والحوار وخشبة المسرح والستارة، والكراسي والإضاءة والديكور والزي، هو الروح والكريستال والعطر والربيع المزدان وأصابع الحلم والروح الطيبة، هو الهامة والمنولوج وإيقاع الحداء والحاضر الغائب والزعتر والرشاد وحبة الخوخ والكرز وورق النعناع والثمار اليانعة، هو اللوحة واللون والقماش والفرجة والفرشاة، عبد الله بن خميس وإن رحل عنا بغفلة دون وداع، بجو شحن الذاكرة بتفاصيل ترفض التوديع والرحيل، إلا أن موت الشيخ وتابوته وجنازته جاءت بهمهمة البكاء والنحيب المخبأ بين شفاه الصمت ولحظات البوح واللحظة التي تأتي ولا تأتي، لقد فقدنا من نحب بانكسار نفسي فظيع، فقدنا الشيخ الذي زرع البذرة البيضاء في نفوسنا مخلفا عشبه بهية وسنديانة وارفة كبيرة.