تمنينا لو لم يأت هذا اليوم الذي اضطررنا فيه لقراءة وصية والدنا الحبيب لنا - وصية لا بد أنه كتبها والدموع تنهمر من عينيه وتبلل الورق.. كيف كان شعوره يا ترى وهو يخط هذه الكلمات لفلذات كبده، وما مدى الأسى والحزن والحرقة التي شعر بها لمجرد فكرة أنه سينتقل يوماً إلى دار الآخرة ويترك بناته دون أب يرعاهن ويحنو عليهن، ويمسك بيدهن إلى بر الأمان. فهن ما زلن يافعات وبحاجة إلى حنان الأب ورعايته، حكمته ونصائحه، بحاجة ليتعرفوا عليه ويعرفوه أكثر. ربانا -رحمه الله- على التواضع ونكران الذات، العطف على المسكين ومساعدة المحتاج، الرفق بالضعيف وعدم التكبر والتعالي، أوصانا بالمحافظة على ديننا والتمسك بتقاليدنا، حب وطننا ومليكنا، العمل بجد وعدم هدر الوقت، كما شدد دائماً -رحمه الله- أن العلم هو السلاح الذي يتركه بيدنا لنواجه به الزمن، أن نتجنب الغش والخداع والابتعاد عن المال الحرام، دفع زكاة أموالنا، سداد ديوننا والاعتراف بالخطأ، كما أوصانا دائماً باحترام كبيرنا وطاعة أمنا، الصرف بحكمة وعدم الإسراف. عرفنا والدنا بعد رحيله وانتقاله إلى رحمة الله تعالى من خلال ما سمعناه من أقاربه وأصدقائه وزملائه ومحبيه أكثر مما عرفنا منه وعنه في حياته. فبتواضعه الجم ونكران الذات، عدم التمجد والتبجح بماضيه ومركزه ووظيفته، لم يزرع فينا الغرور، ولم نكن لندري قدر محبة الناس له وعظمته في تواضعه، وكم من إنسان كبير أو صغير مس حياته من قريب أو بعيد وترك بصمته عليها. المحبة والمشاعر هذه كانت ولا تزال بمثابة عزاء لنا في فقداننا لأغلى من عندنا في الوجود.. فقد أحسسنا أنه من الأنانية الشعور أننا وحدنا في هذا المصاب.. فمشاعر المحبين كانت توازي مشاعرنا وفقدانه كان للجميع، ولا بد أن وقوفهم معنا وإلى جانبنا في هذه المحنة خفف عنا مصابنا. طلب - رحمه الله - منا في أكثر من مناسبة عدم استغلال مركزه تحت أي طائل أو لأي سبب، وأكد علينا أن نكون قدوة للغير. ونذكر أنه أكثر من مرة أنزلنا من الدرجة الأولى الى الدرجة السياحية حتى نعطي مقاعدنا لركاب آخرين. علمنا أن نجاح الخطوط هو نجاحنا ومصلحة الخطوط تأتي دائماً في المقدمة، وقبل أي مصلحة أخرى. لم نكن نراه في طفولتنا الا لماحاً.. لم نستمتع برفقته أو نلعب معه مثل غيرنا من الأطفال، فوقته كان مقسماً بين المكتب الرئيسي في الصباح، ومكتبه في مدينة السعودية في المساء. أما نهاية الأسبوع فقد كانت مخصصة لانهاء الأوراق والأمور المعلقة والتي لم تسمح له الساعات الأربعة والعشرون يومياً أن ينهي عمله فيها. وما كان طلبه للتقاعد مبكراً الا ليقضي بعض الوقت معنا ليستمتع بطفولتنا معه، ونستمتع بحنانه وحبه ورعايته واهتمامه.. قبل فوات الأوان. بابا.. يا منبع الحنان وعطر الريحان.. يا بسمة الفجر وبلسم الجراح.. يا باعث الأمل وشاحذ الهمم.. يا كبير القلب يا ذا البسمة الصادقة والنظرة الحانية.. رحمك الله يا أغلى أب في الوجود.. رحمك الله يا بابا، فقد سبقنا المحبون عندما أسبغوا عليك ب- « أب الطيارين «، وأب الخطوط، وأب الجميع. رحمك الله يا من لن ننساه لحظة ما حيينا، وإذا كان لا بد من أن يزداد حبنا لك فقد ازداد بعد وفاتك. رحمك الله وأسكنك فسيح جنانه وألهمنا نحن ووالدتنا الغالية وجميع الأهل والأصدقاء والمحبين الصبر على فراقك. ونحن إذ نشكر بقلوب ومشاعر صادقة كل من شاركنا العزاء؛ إما بالحضور أو بواسطة الهاتف والفاكس أو بالمشاعر الفياضة عن طريق المقالات والأشعار، أو بالدعاء له من قريب أو بعيد. فصاحب القلب الكبير الذي وسع كل أهله ومحبيه وأصدقائه ومعارفه، وإن مات وتوارى جسده تحت التراب إلا أنه حي في قلوبنا ومشاعرنا، وروحه ترفرف حولنا تتفقد الأحباء وتطمئن على راحتهم وسعادتهم. فمن تذكر وجل وأخلص لمحبيه في حياته، لن ينساهم في مماته. أعزاءنا.. شاركونا الدعاء بالرحمة والمغفرة لفقيدنا الغالي، عسى أن يتقبل الله دعاءنا ويسكنه جنات الخلد ويلهمنا الصبر والسلوان.