في هذا الطرح لن أتطرق إلى تعريف الفساد وأسبابه وآثاره ونظرة الإسلام إليه، فهذا الأمر أصبح بديهياً.. ويكاد يكون معلوماً لدى الجميع بأنه خرقاُ للدين وسبباُ من أسباب اللعن.. كما ورد في الآيات الكريمة والأحاديث النبوية الشريفة، فلقد أشبع ذلك طرحاً من قبل الباحثين والكتاب. أريد أن يكون المدخل إلى هذا الموضوع هو ما قاله خادم الحرمين الشريفين كمنهج لمحاربة الفساد «الضرب بالعدل لهامات الجور والظلم» وكذا أمره بإدراج جرائم الفساد من ضمن الجرائم الكبرى بعد أحداث سيول محافظة جدة، وأخيرا أمره الكريم بتفعيل الهيئة الوطنية لحماية النزاهة ومكافحة الفساد وذلك بتعيين رئيساً لها وإشارته البدء في تكوين هيكلها باعتبارها الآلية التي تنفذ من خلالها الإستراتيجية الوطنية لحماية النزاهة ومكافحة الفساد التي صدرت منذ وقت.. كل ذلك يقودني إلى الكتابة عن ذلك الوحش المسمى (الفساد) باعتباره ضرباً من ضروب الظلم والعدوان، فهو الآفة السلوكية التي ترمي بظلالها على جميع المجتمعات دون استثناء ولكن بدرجات متفاوتة على اختلاف نظمها الاقتصادية والاجتماعية وأستطيع أن أصنفه بأنه توأم الإرهاب، بل إنه جريمة ضد الإنسانية. وهذا ما يتفق مع الرؤية الواقعية لحال الفساد الآن وما نشاهده من الأثر الحقيقي له ولجميع أشكاله وضروبه على نطاق واسع فعلى سبيل المثال نرى أثر الرشوة - اعتى ضروب الفساد - وما تسببه من الإخلال بالمساواة بين المواطنين أمام خدمات المرافق العامة حيث يحصل على الخدمة من يدفع المقابل للموظف العام بينما يحرم منها من لا يقّدر على ذلك، وبالتالي تهدر المصالح.. وحينئذٍ تضعف ثقة الناس في نزاهة وموضوعية الجهة الخادمة. ثم إن الرشوة كما أنها تخل بالمساواة بين الأفراد فإنها كذلك تخل بالمساواة بين الموظفين أنفسهم، إذ يحصل الموظف المرتشي مقابل أدائه لعمله على دخل يفوق ما يحصل عليه زميله غير المرتشي الذي يؤدي نفس العمل، مما قد يدفع زميله إلى تقليده.. وبذلك يتفشى الفساد في البيئة الإدارية، كالنار في الهشيم.. إذن الوطن أمانة في أيدينا وبحاجة إلى أن نساهم في إنمائه وتطوره ونحفظ مكتسباته، ونشارك في استكمال حاجات مواطنيه واحتياجاتهم، لا أن تكون المسئولية الملقاة على عواتقنا جسر عبور للاستغلال الوظيفي أو لتحقيق الثراء والكسب غير المشروع عن طريق التواطؤ، أو الرشوة، أو الاختلاس أو أهدار المال العام وتبديده.. أو جر مصلحة وذلك بمحاباة الأقارب أو من ينتمي إلى أفكاره أو المحسوبية المتبادلة أو عدم المبالاة بحقوق الموظفين وترقياتهم أو التخاذل أو الغفلة عن ذلك، بما يسمى بالفساد الرعوي والاستناد في ذلك باسم المصلحة العامة. إن هذا النداء الملكي الكريم كاف لتضافر الجهود بالحرب على الفساد والوقوف أمام كل باغ أو ظالم يدعمه ومحاولة القضاء على جميع أشكاله وضروبه والحد منه بلا تهاون أو تراخي.. وعلى من حمل الأمانة والمسئولية أن يراعي الحقوق والواجبات، ويحقق الآمال التي ينشدها خادم الحرمين الشريفين ويتطلع إليها كافة المواطنين. لكن السؤال الذي يفرض نفسه هو: كيف نكسب الحرب على الفساد؟ والإجابة على ذلك أن الحرب على الفساد لا تكفي فيه النوايا الحسنة بل لا بد أن يكون هناك جدية في الحرب عليه، وأن تكون الجهود صادقة تعكس الالتزام بالقضاء على الفساد جنبا إلى جنب مع بناء أنشطة النزاهة.. فالدول التي أثبتت إرادتها وأصرت على القضاء على الفساد بدأت تجني ثمار ذلك بعد أن كاد الفساد أن يؤدي إلى تآكل هيبتها وخدماتها.. يجب أن نؤمن بأن الفساد أكبر من أن يكون مجرد مسألة اقتصادية، لأن تصنيفه على أنه مسألة اقتصادية فقط يعتبر تقليلا من تأثيره الحقيقي على المجتمع، صحيح أن الفساد يدمر الرفاه الاقتصادي، ويجعل الناس أكثر فقرا لأنه يؤدي إلى التضخم، ويؤدي إلى الخنق الاقتصادي وهروب رؤوس الأموال، ويشوّه الأسواق والمنافسة..، لكن بالإضافة إلى ذلك بجب أن يتولد لدينا الاعتقاد الجازم بأن الفساد يخلق أزمة الثقة بين المواطنين، ويقوض الولاء، ويسبب تآكل القطاع العام والقطاع الخاص، ويدمر الأسس التي يقوم عليها المجتمع، بل ويعتبر عائقا رئيسا للتنمية التي تعمل الدولة جاهدة على تحقيقها، وبالتالي يهدد التطلعات المشروعة للأمة، ويعرض مصالحها العليا إلى الخطر.. يجب أن نؤمن بأن الفساد هو السبب الرئيس في إشاعة روح اليأس بين أبناء المجتمع وتآكل نسيجه الأخلاقي، ومعروف أنه كلما دب اليأس إلى النفوس انخفض مستوى المبادرة، وكلما انخفضت المبادرة قل الجهد، وعندما يقل الجهد يقل الإنجاز. وبالتالي يتوارث الناس الإحباط جيلا بعد جيل.. بل والأشد من ذلك أن الفساد لا يتوقف عند هذا الأمر!!، بل يتعدى إلى ما هو أكبر! ألا وهو ترك الناس الفقراء والضعفاء بدون الخدمات الأساسية صحية كانت أو سكنية فيفقدون على إثرها حياتهم وحياة أبنائهم مثل: من يحرمون من الأدوية أو وسائل المعيشة التي تنقذ حياتهم وبالتالي يكلف مزيدا من إزهاق الأرواح، يعني أن وجوده أن تكون أسرة بلا بيت وقرية بلا طريق وبلا ماء أو كهرباء ومريض بلا دواء وبالتالي يحرم الكثير من حقوقهم الاقتصادية والاجتماعية والثقافية. يجب أن نؤمن أن الفساد - ظاهرة إجرامية خطيرة- يحط من قيمة العمل والإنتاج والنزاهة ويرفع من قدر مخترقي الأنظمة والمتحايلين عليها.. يفرغ مصطلح (الحق والنظام) من معناه الأخلاقي ويكرس واقع الظلم والغبن الاجتماعي ويفرضهما بقوة الواقع .. يضرب عرض الحائط بمبدأ تكافؤ الفرص الذي يعد مكسبا لنا ولبلادنا ولحضارتنا، ولا شك أن كل مساس بهذا المبدأ هو مساس بقيم المواطنة التي هي نتاج طبيعي لدولة الحق والعدالة.. إنه المرض الفتاك الذي يمس جميع المجالات الإدارية والاجتماعية والاقتصادية، وينفث سمومه على الحقوق والمصالح والحريات لضرب التنمية الحقيقية والتقدم الاجتماعي للمواطنين، لذلك لا ينبغي أن يكون موضع ترحيب في أي جانب من جوانب حياتنا، وبالتالي يتعين مقاومة بأي وسيلة. لا بد أن ينظر إلى الفساد باعتباره عمل غير أخلاقي يعمل على تقويض المبادئ والأخلاق والعدالة ويتناقض مع فضائل الإيجابية في المجتمع وأن مرتكبه شخص غير شريف وشرير وسيئ ونتيجة لذلك ينبغي لأهل الخير أن لا يشاركوا فيه وبالتالي يكون الرفض الاجتماعي لأي شخص قد يتورط في ممارسات أي ضرب من ضروبه. واعتقد أن هناك سبلا يمكن أن تساعد في كسب الحرب ضد الفساد مع توافر الإرادة السياسية، من دعم الجهات الضبطية والرقابية والتحقيقية والقضائية فنياً، هذه الوسائل تتمثل في تداول المعلومات والبلاغات وحماية المبلغين وإصلاح البرامج الفنية والإجراءات الإدارية والتعبئة الاجتماعية وإعادة توجيه وسائل الإعلام لدق نواقيس الخطر وإشراك منظمات المجتمع المدني في ذلك، وتحقيق رسالة المسجد بتنشيط الرقابة الذاتية من قبل الأئمة والخطباء وإيجاد مدونة أخلاقية لقواعد السلوك لجميع موظفي الدولة، يدون فيها كل ما يمس نزاهة السلوك،. وبالطبع لا يمكن تمييز واحدة عن أخرى من تلك السبل للحرب على الفساد.. بل إنها لابد أن تكون مزيج من ذلك كله. ثم إن على القطاع الخاص أن يتحمل مسئولية في مكافحة الفساد، وذلك بمواجهة الفساد الموجود فيه لأن ذلك ينعكس على القطاع العام، فلا بد أن يكون القطاع الخاص قدوة لغيره بأن يجعل الممارسات العادلة والشفافة هي السبيل لإنجاز تعاملاته وصفقاته.. لا بد أن يلعب دورا بارزا في مواجهة ذلك العدو الشرس الذي يدعو إلى التغاضي عن الظروف الخطرة أو السماح للشركات بتوريد خدمات منخفضة الجودة.. يجب أن يكون دور الغرف التجارية والصناعية وسيلة لتحقيق الترابط والتماسك في حركة القطاع الخاص نحو إصلاح السوق، لأنها أحد الأطراف الرئيسة التي تضع إجراءات إصلاح السوق. وتستطيع إنجاز ما لا تستطيع الشركات والمؤسسات إنجازه على انفراد مهما كان حجمها، وتلعب دورا هاما لتصبح مصدرا من المصادر المهمة لتزويد أجهزة الدولة المعنية ووسائل الإعلام وعموم الجمهور بالمعلومات اللازمة، لأنها تستطيع الحصول على كميات من المعلومات المتعلقة بتأثير الفساد على المجتمع، ولهذا السبب فإن الغرف تقدم للقطاع الخاص أفضل فرصة لتحقيق النجاح في المعركة ضد الفساد بتقديم الدعم المستمر لتحقيق المزيد من الإصلاح.. وعلى هذا، كلما تسارعت معدلات إصلاح السوق كلما تسارعت معدلات انخفاض الفساد. وفي نظري أن هناك ستة أسئلة يجب أن تقوم باختبار مدى جدية هذه الوسائل. بين وقت وآخر وهي: هل هذه الوسائل منتظمة؟ هل هي شاملة؟ هل هي متفقة مع واقع الحال؟ هل يوجد لديها التركيز؟ هل تحظى بدعاية؟ لأنه متى ما كانت الإستراتيجيات ليست مطبقة بالكلية وغير شاملة ولا يتبعها قياس بين فترة وأخرى وغير متضمنة الوسائل المذكورة فإن الحرب على الفساد قد تكون خاسرة في معظم الأحيان. وبعد: فلنكن يدا واحدة ضد الفساد وليكن صوت الحق في ضمائرنا لا. لا. للفساد وليكن شعارنا: «إن الله لا يحب المفسدين».. فكم اتجه أشخاص نحو جلائل الأعمال امتثالا لأصوات ضمائرهم! وكم انصرف آخرون عن الفساد والشر لأنهم عانوا من وخز الضمير وما جلبه عليهم من شقاء وألم.. لكي نبني وطننا بناءً شامخاً على أرض صلبة لا تهزها الرياح العاتية، والله من وراء القصد.