أي مدينة هي جدة الآن..؟ بنت البحر التي بين شاطئيها النهى غريق غريق..؟ وأهلها معلق بين بحر لجي لم يعد يبين منه أي معلم لطريق.. وبين لاجئ لسقف عربة.. أو لاجئ لمنزل صديق.. غير أولئك الذين يتصايح أهلوهم بين هواتف بحّت لها حناجر الهلع.. فالبنات من الجامعة يتشتتن عن بعضهن.. كل تحاول النجاة من سيل الماء.. وسطوة الغرق, وبعضهن محتبسات في الأدوار العليا.. وكثيرون على الأرصفة.. ونصف أجسادهم في الماء لساعات طويلة.. كأنه يوم الحشر كل ينجو محاولاً الفرار.. جدة أهلها لا ينامون في بيوتهم ليلة الفيضان،, والسماء برحمة الله وهبتهم السقيا, والمدينة لا تزال مطحونة بالخداع.. جدة، جئتها البارحة لتفزعني بخفايا مدلول منقبتها «جدة غير»، تعرفني أن مدلول واقعها فهي مذمتها، لأنها غير كل المدن العريقة التي تنعش أمطارها أهلها، أما جدة فتفزعهم، تشتتهم وتقتلهم، تخيفهم، تتجاوز كل سمات المدينة الحيوية المتمدنة، فظاهرها وادع، حالم، بحري، وباطنها هش، قواعده لا تستقيم.. جدة تجاوزت في مواسم المطر كل مقياس لمنطق الرحمة.. فما الذي يحدث في مدينة البحر..؟ اللهم الطف بجدة، على أي سبب.. الطف بنساء ترجف هلعاً على صغارها، ورجال أنهكتهم شوارع ضاعت تفاصيلها غرقاً في الماء.. الطف بمن آوتهم أسقف العربات الطافية، وجمعتهم أسطح العمائر المظلمة، وضاعت فرحتهم بالمطر.. ولم يعد لهم إلا نذير خوف.