بحرٌ في شوارع جدة أم طوفان؟ أمواجٌ طينية. وهديرٌ أحمق، لا يشبه صوت البحر. لا يعرف أنّى يتجه، وكيف يسير. يا الله... أكاد أختنق أكتب إليكم وحولي ماء.. ماء.. ماء.. ماء.. !!!! آآآآآآآآه ماذا أفعل..... ؟؟ أعمالي الفنية تشوهت بالماء يوم الأربعاء..... يوم كامل بلا مواعيد.. بلا مسؤوليات.. أعمالي كلها تأجلت أو ألغيت هاتفي الجوال صامت صمت الموت... في ذلك اليوم..... اذكر أنني عكفت على نقل لوحاتي إلى الدور العلوي. وفي الطابق السفلي تركت الكتب والمقاعد والدواليب وملابسي وأحذيتي كلها تغرق تحت الماء. الماء تحت. وفوق. وخلف. وبين المقاعد... الماء في كل مكان. إحساس بالضيق والحزن العميق داهمني وأنا أتنقل بين لوحاتي بمجفف الشعر كنت أحاول أن جفف عنها الماء. لكن أغلبها تحولت إلى تموجات مختلطة تضم خطوطًا وتعرجات وبقع لونية لا معنى لها. بالماء تشوهت لوحاتي. بسبب الماء ضاعت ثمرة جهودي التي أبدعتها من وحي رحلتي في الأزقة. ضاع بحثي المضني في معالم حضارة جدة. ضاعت ساعات متواصلة قضيتها داخل المحاريب والمتاحف، أرقب حركة القباب المائلة، أتأمل جلال الخضرة الفائضة من المآذن المرتفعة. (فمآذن جدة وحدها فقط دون غيرها من المدن تضاء باللون الأخضر!!). تابعت بحرص حركة الشوارع حول هذه المعالم الصامدة. هذا ما جعل ألواني أكثر رشاقة، وأكثر حيوية وجرأة في التعبير. مع حركة الشوارع، تراقص الماضي. حكى عن دفء البيوت العتيقة، وفرح الحواري بلذائذها الفقيرة. كل ذلك كان موجودًا في عالمي (الخيالي / الخاص). قبل يوم الأربعاء قبل أن أفجع بلوحاتي التي رسمتها بيدي. وقد صارت غاية في السوء والشناعة. قبل أن تصبح جدة عارية من الحسن، أمام شبح الماء، لا تعرف كيف تداري سوءة الحاضر... ؟؟ كيف تتخفى من عيون التاريخ... ؟ قلت لنفسي ربما تشفع بعض معالم الحضارة فأغض الطرف عن أكداس الوسخ أو الخراب الذي لحق بها بعد المطر.. مَنْ أسأل عن اتساخ مدينتي في هذا العالم المظلم؟؟!! ماضي جدة كله منثور أمامي في تلك اللوحات (الخربة). لقد غدت لوحاتي ملطخة بالوحل... غدت شاهدًا على انكسار مدينتي وتلطيخها بالسواد والطين. غدت غارقة تحت الماااااااااء لا تعرف لوحاتي لمن توجه الاتهام؟؟ من السبب؟؟ كانت هناك بصمات مطبوعة فوق سطحها. إنها جريمة لا سبيل للإنكار. في يوم الأربعاء صرخت لوحاتي استغاثت: أنقذوني... أنقذوني. إني أغرق... أغرق تحت الماء. في يوم الأربعاء خسرت أثاث منزلي... وسيارة موديل 2010 لم تكتمل أقساطها بعد. حتى قطتي المدللة (ستوتة) نسيتها في سريري وغرقت تحت الماء. لم يبق لي شيء سوى لوحاتي الخربة. سوى فضاء اللوحات الذي اكتسحه الماء. في هذا الفضاء المتسخ رأيت عالمين: الأول خارجي تتراقص فيه بقع اللون المتداخلة بحمق في زحام بصري، يستمد أبعاده من حضارة سحيقة. عالقة هناك في باب مكة. في حارة المظلوم. خلف ركام الماضي وأكداس الوسخ التي علقت بالمكان بعد المطر. أما العالم الثاني فهو عالم الموت الطافح داخل اللوحات. عالم نشأ داخل الإطار حيث تسبح البيوت والمساجد والمتاحف... عالم جديد. ومشاهد فنتازية حاولت إصلاحها بمجفف الشعر وخامات متبقية سلمت من جنون المطر. من مزج هذين العالمين. حاولت نزع القبح من مفردات الطرق والبيوت والأبراج والحدائق، حاولت استعادة مدينة عريقة فاضلة. لكن الأيقونات والموتيفات التي قدمتها في عالمي الجديد، كانت مستوحاة من فضاء بصري متسخ.. خطر ببالي أن أتخلص من تلك الرسومات القذرة. أن أمزق هذه التصدعات. أن أحرقها. أن ارسم جدة في لوحات أكبر وأحسن مما كنت أفعل في الماضي، فلا يبقى للتاريخ سوى الوجه النظيف لمدينتي الحلوة جدة «أم الرخى والشدة». هكذا فكرت لكي أضمن لها صورة حسنة إلى الأبد. لكنني انهزمت أمام مشاعري، أمام الملكيات التي لا أمل لنزعها (والشاة حين تذبح وتباع لا يمكن استرجاع لحمها وبخاصة عندما تستقر في البطون!!) تمنيت في هذه اللحظة أن أطوف الشوارع كلها، لأمحو بصمات الخراب المتناثرة هنا وهناك... كانت أمنية. هل هي قابلة للتحقق؟ أكيد... أرجو المعذرة أنا فنان وكل فنان تمر عليه لحظات لا يرضى فيها عن عمله لحظات فشل، تتخللها لحظات نجاح. لكن هل يمكن أن يهبط مستوى فنان؟؟!! إذا حدث هذا... فإن الفنان يغوص في قاع الندم. ويقول: «يا ليتني مت قبل هذا وكنت نسيًا منسيًا» بهذه القسوة حكمت على نفسي، قبل أن يحكم علي غيري، بعد أن تناثرت لوحاتي فوق الماء، بعد أن تلاشت نقوش يدوية رسمتها على واجهات البيوت والمآذن!!! صبيحة يوم الأربعاء. يوم الغرق تحت الماء.