أرسل لي أحدهم تسجيلا لقصيدة بعنوان «التأشيرة» لشاعر عربي موهوب بلا شك. وهي القصيدة التي شارك بها «هشام الجخ» الشاعر المصري الشاب في برنامج «شاعر المليون». وقد تنامت له مؤخرا شعبية متذوقة ومتفاعلة بين أوساط الشباب والمثقفين. وأشار مرسل التسجيل إلى أن الشاعر رغم مهارته الواضحة وثقافته وصدقه استُبعِد بعد أن وصل مرحلة النهائيات لأن «فحوى القصيدة لا تخدم الهدف من البرنامج». في البداية لم يفتح اليوتيوب وجاءت رسالة من مشغليه تذكر أن بعض المشاهدين طلب إيقافها من تسجيلات اليوتيوب لأن محتواها مسيئ. وجدت رابطا آخر لم تطله يد الإغلاق.. وللحق شعرت بالحرج شخصيا في تقبل بعض ما احتوته القصيدة إذ وجدت في بعض الأبيات خروجا عن آداب المخاطبة والحوار خاصة في مخاطبة الشاعر متقمصا دور المواطن العربي ل «الحكام العرب» بصورة التعميم واتهامهم بأنهم السبب في ضياع أحلام المواطن العربي؛ ولكنه لا يفعل ذلك بإسفاف نزار ولا يستخدم لغة هابطة تحت الإزار ولا يعبر بتقصد حاسد ولا بعنجهية فئوية ولا بنظرة فوقية بل بحرقة وفجيعة طفل يسكن قلب أي مواطن عربي شاب اكتشف أن المثاليات التي تشربناها أطفالا في قصيدة مثل «بلاد العرب أوطاني من الشام لبغدان.. ومن نجد إلى يمن إلى مصر فتطوان» ليست إلا مثاليات غير مطبقة على أرض الواقع، انتهت أوهام سرب ضائع جرى وراء خطابيات قصائد فخر وأغان جماهيرية متحمسة. وأن واقعنا الحاضر هو واقع «التأشيرة» المطلوبة لتعبر إلى أرض إخوانك «العرب» عبر الحدود. التأشيرة التي تحتاجها لتعيش.. ولكنه غير متيسر الحصول عليها إلا بشق النفس والمهانة. تابعت الشاعر يلقي قصيدته المؤثرة الصدق وهو يتناقض بين الحزن والغضب والبكاء والكآبة حيث تلقائيته في الإلقاء وعفويته في التعبير أطّرت كلماته بمشاعر متفجرة تجاوب معها الجمهور تصفيقا حادا؛ بينما انشغل المحكمون بمحاولة التحكم في تعابير وجوههم لعلمهم أن كاميرات التلفزيون تسجلها بنفس الوضوح الذي سجلت فيه أجهزة التسجيل مفردات القصيدة الجامحة. في رأيي لم تكن قصيدة مدح تعجب الممدوحين ولا قصيدة هجاء تغلي بغضب فرد على واقعه الخاص ولكنها كانت قصيدة شاب محبط يبكي احتجاجا ويعلن في النهاية أنه سيظل متشبثا بأحلام طفولته وإن كانت تبدو أوهاما لأنها هي الحقيقة الفعلية. لماذا منعت القصيدة؟؟ هل لأنها أساءت الأدب في مخاطبة «الكبار» بنبرة لوم؟ هل لأن الإشادة بها تحمل ضمنيا الموافقة على ما احتوته من رصد للماضي وتهم في الحاضر وتشاؤم من المستقبل ؟ أم لأنها تطرقت إلى قضية تمس قضية الأمن من مصادر خطر داخلي حين تدغدغ ذاكرة الجمهور ليس للتصفيق متحمسا لمواجهة عدو خارجي، بل مستفزا إلى إعلان موافقته على التشخيص الموجع؟. هذا طبعا لا يعني أن أيا من الأوطان العربية؛ لا تلك المزدحمة بأهلها والمتعنتة القمة، ولا تلك الصغيرة المرفهة المواطنين؛ ضمنت أمنها واستقرارها في زمن تهميش مشاعر المواطن ومنع المعارضة والضعف أمام بريق السلطة والفساد وتصدع الحس الوطني؛ إضافة إلى مجاورة الأعداء، وضغوط القوى العالمية المتطلعة إلى الهيمنة. ولكن مسببات عدم الاستقرار تختلف، رغم المشترك من جوع الملايين: الأوضاع المتردية في السودان بين جنوبه وشماله ليست - في تفاصيل مسببات عدم الأمن- مثيلة الأوضاع المتصاعدة في اليمن بين جنوبه وشماله وتسلل القاعدة والمتطرفين، وليست مثل تكهرب أوضاع الجزائر ومصر في تصارع الأحزاب المحلية. وهي أيضا ليست المعارك والخطابيات الصاخبة والصراع على أبهة كراسي التمثيل الحكومي في العراق ولبنان. أما في الخليج فكون المواطنين أقلية مرفهة لا يقلل من حدة الشعور بعدم الاستقرار والتمييز وبالغرق في بحر من السحن واللغات الأجنبية لملايين العمالة المستقدمة. تبدو لي محاولة تفسير الأمر أو فهمه على الساحة العربية مثل متاهة متداخلة العبثية.. والضائع هو المواطن في كل الأحوال.