لم يعد الوقت يسمح بمتابعة السيل المتدفق من الوسائل الإعلامية. في الماضي القريب كان المتعلمون قلة والأميون غالبية ولذلك لا تنتج الساحة إلا القليل من الإضافات النخبوية إلى رفوف الكتب وسطور الصحافة. الآن تغير الوضع وفاضت المقالات بكل أنواعها في التدوينات الشخصية نتيجة تصاعد أعداد خريجي المدارس وانتشار استخدام الكومبيوترات. بعض هذا الفيض غيث يضيف إلى الاطلاع الذاتي، وربما ترسيخ ثقافة الحوار مع الذات ومع المعلومة ومع الآخر. وكثير منها يضيف إلى غوغائية اللغط والغلط والغثاء. في الماضي العربي كان الفكر والتعبير والتأليف مسألة تركيز فردي وتحليل للظواهر المتاحة للتأمل ثم تسجيلها لتضمن البقاء حتى يستلها من فوق رف ما متلق يبحث عما يسره ويمتعه ويشغل فائض وقته بلذة التواصل مع فكر رائد وتحليل متعمق مقارن لما سبقه وتنظيرات مستجدة؛ ربما يأخذ القارئ بعدها دور المتقبل والمريد الممارس لتفاصيل هذا الرأي. اليوم باختصار يكاد لا يسمح الوقت بالقراءة الاسترخائية للتلذذ؛ إلا لمن لديهم فائض من الوقت لملئه بتتبع تراكم الدوواين الشعرية ثم زخم القصص والروايات بصدقها وتوهماتها وتشبهها بأدب الآخرين. وهناك القراء المتخصصون في مجال ما يتابعون ما يضاف إليه من أطروحات بتخير المتقصد الباحث. الوقت أمسى بلا بركة للقراءة الهادئة، ولكن من الضروري ممارسة المتابعة الجادة - في عصر انفتاح العولمة - بالقراءة للاطلاع على المستجدات في العالم، والتثقف، ولنشر الوعي. طبعا ما يسري على القراءة لا يسري على الكتابة. وقد يكون السبب ضحالة مناهجنا وتلكئها عن الانفتاح على التفكير العلمي والتنموي العام والنمو الفكري. وفي غياب التواصل بين فئات المجتمع - إلا في ما يتعلق بمجابهة فرضياته وقمعه - غذى محو الأمية وانتشار التعليم والصحف عند عموم الناس خاصة الشباب رغبتين فطريتين: الرغبة الأولى في التعبير عن مشاعرهم الذاتية، والأخرى في إبهار الآخرين بتميزهم. وقد تكون هذه الأخيرة ظاهرة شرقية أومحلية عربية لانعدام مجالات الترفيه والحضور التي تملأ فراغ الوقت وتمتص الطاقة في عنفوان تدفقها وتمنح فرصة إظهار المواهب الأخرى. الرغبة الأولى تدفع الآلاف إلى ملء الصفحات كما فعل الأسبقون بسيل من الوجدانيات والمشاعر الإنسانية المشتركة. كلام كثير عن الحب والعشق والهجر والشوق والتألم والحيرة؛ وقد ينحدر إلى إباحية الشبق والتعطش الجنسي بمفردات مواربة أو مباشرة. والمؤسف أن البعض ينحدر أكثر إلى الدخول في التفاصيل المتعلقة بصورة مرضية حتى ليثير الغثيان؛ حيث تتلوث الكلمات بسوائل الجسد ويظن كتابها، سردا ونظما، أن هذا يماشي المستجد العالمي وهوما يضمن كثافة المتابعة، حيث المراهقة المتقدمة والمتأخرة واختلاط الأحلام بالاحتلام قد يخدم أكثر من غرض: التنفيس - في مواجهة ضغوط الكبت المجتمعي-، والتنافس على جذب المتابعين وربما تسويق المنتج، وإثبات الانتماء إلى فئة « المثقفين» حتى لو بالاستلاف من الآخرين. ويتناسى الكاتب المحلي أن قدوته في الخارج يرصد ممارسات مجتمعه، أما محليا فهو ينسج على منوال مستورد. ولا يضاهي هذا إلا الكتابات الناقدة والمسيسة والجالدة لذات المجتمع حيث يتكلم الكاتب بصيغة « نحن»، ولكنه فعليا يستثني نفسه لأنه « مثقف» قادر على الحكم بسوءة الأقربين؛ فهو جريء ومتميز في عين ذاته وفي عيون بعض المتابعين الذين لا يملكون جرأة استخدام مصطلح « نحن» حين يكون الأمر دعوة إلى استنقاص الذات بنزع غرض الفخر من قائمة أغراض الشعر العربي مكتفين بالهجاء وأحيانا الرثاء. ولعل لهم عذرا في التشبه ببعض، هنا يأتي خط التلامس مع الرغبة الثانية في الظهور والتميز، وهوخط غائم لأن معايير التصنيف غائمة أيضا. فاختيار ما تقرأ على أساس سرعته في استثارة الانفعالات تعطشا أو غضبا أو نقمة أو كرها، هي غير معايير اختيار ما تقرأ لنوعية استثارته للتفكير العلمي أوالتحليل السياسي أوبناء المعرفة العلمية. وقد حاول البعض الأكثر موهبة وثقافة خلط الخل بالزيت ونجحوا إلى حد ما. وهي في الحقيقة ممارسة الكتابة بطريقة المقبلات ثم الوجبة الرئيسية؛ موجة امتطاها نزار قباني وظل يحاول التوازن فوقها لعقود عمره، والمقتدون المنبهرون ما زالوا يقلدون حالمين بالتصفيق الذي حققه. فالرغبة الثانية هي ما جعل ساحة الكتابة ساحة لاتقنين لها وديدنها تقليد أول موجة من المجددين - ممن اتصلوا بأدب الغرب- مع فقدان الصلة بالرغبة في الريادة. أتلقى كل يوم عبر البريد الإلكتروني والشبكة والفيس بوك مئات المقالات منقولة من الصحف اليومية والمجلات لا يسمح الوقت، مهما تفرغت، لقراءتها كلها. أتخير منها بدءا ما يوحي لي العنوان أو اسم الكاتب أنه سيضيف شيئا إلى معرفتي .. أقرأ أول بضعة أسطر وأكمل قلة منها .. وأتأثر من بعضها الأقل، وأنبهر بالندرة. والأهم منها أحرص أن أضيفه في صفحتي بالفيس بوك ليراه مرتادوهما - فهو ما أشعر أنه واعد بتطوير ثقافة استيعاب المجتمع لبعض القضايا المصيرية الهامة. وثقافة الحوار المقنن بحيث لا ينفلت إلى معارك طواحين هواء دونكيشوتية أومناقشات بيزنطية أوتراشق رماح الفخر والهجاء أواستثارة العداء والإقصاء والاستعداء. أو وهو الأسوأ التخدير والانتشاء.