يلجأ الإنسان إلى الحفاظ على حياته ويقبل على كل الأساليب التي تطيلها، وذلك باتباع الطرق الوقائية المختلفة على مستوى فردي وجماعي. ومن المعلوم أن المرض يشل قوى الإنسان إن لم يقض على حياته، بالإضافة إلى النفقات التي يتكبدها المصاب وكمية الإنتاج الضائعة بسبب الانقطاع عن العمل. فمن الناحية المادية، فإن النفقات الطبية تلتهم جزءاً لا بأس به من نفقات الفرد التي قد يقتطعها المرء أحياناً من نفقات الغذاء ليشتري الأدوية اللازمة، علماً أن تكلفة معالجة المرض تتزايد من جراء الاكتشافات العلمية، وما نجم عنها من أجهزة معقدة لكشف وتشخيص ومعالجة المرض وتركيب الدواء. ومن ناحية الإنتاج فمن المعروف أن نفسية المريض غير الطبيعية تؤثر على سير العمل وتقلل كمية إنتاجه، كذلك الغياب عن العمل بسبب المرض يمنع الشخص من القيام بالعمل وبالتالي عدم الاستفادة من قواه العقلية والجسدية وإمكانياته المختلفة. وإذا اعتبرنا أن العنصر البشري هو العنصر الحركي الفعال لتنفيذ خطط التنمية الاقتصادية والاجتماعية، فإن غيابه سوف يعوق ويؤخر إنجاز ما هو مطلوب منه. لهذا، يعد رفع المستوى الصحي للسكان هدفاً أساسياً يتوجب الوصول إليه سواء من أجل تأمين الرفاهية للفرد أو لرفع إنتاجية العمل. إن الطبيعة المزدوجة للصحة وسيلة وغاية للتنمية الاقتصادية والاجتماعية في آن واحد لتؤكد ضرورة توفير الاعتمادات المالية الكافية، بحيث تكون قادرة على النهوض بالخدمات والبرامج الصحية، وكذا قادرة على معالجة أية مشكلات صحية جديدة قد تظهر في المستقبل. إذن: ما هو الاقتصاد الصحي؟ هل هو فرع جديد من الطب، أم من العلوم الاقتصادية، أم مزيج من الاثنين، أم هو علم خاص ومميز؟ وبماذا يهتم بالاقتصاديين أم الأطباء، بالإحصائيين أم المختصين، بعلوم الرياضيات أم بعلوم الاجتماعيات؟! فالصحة تدخل في مجال الطب وهدفها الإغاثة والعناية بالمريض، وذلك بالاستناد إلى الأخلاق المهنية للأطباء، أما الاقتصاد فهدفه هو المعرفة الموضوعية للظواهر ذات الارتباط بالاستهلاك والإنتاج والتوزيع والموارد على ضوء التكلفة. ومن ثم فكيف نجمع بين هذين الاختصاصين المتناقضين ظاهرياً من حيث المفهوم؟! بداية ينبغي أن نتذكر تطور المشاكل الصحية، إذ قبل خمسين عاماً كانت المشاكل الصحية و الأمراض، لا تستدعيان النظر إليهما لا من الوجهة الاقتصادية، ولا حتى من الأوجه التي تهم المجتمع، عدا الأمراض الوبائية، فلقد كان الطب طباً فردياً. وفي بداية هذا القرن أصبح الهدف الأساسي هو وضع نظام للتأمين الطبي، وذلك لصالح المعوزين والعاجزين خاصة. والهدف الثاني هو تنمية وتطوير شبكة المستشفيات والمؤسسات للعناية والوقاية، والتي تسمح بدورها بنشر التقنية الجديدة المعروضة من خلال العلوم الطبية. يقول د. محمد عبيدو في كتابه المتميز (مدخل إلى التخطيط الاقتصادي الصحي) في أقل من نصف قرن انتقلت المشاكل الصحية من الحيز الفردي إلى الحيز الجماعي. ومن ثم، فينبغي أن نحلل وبأسلوب علمي طبيعة الظواهر ذات الصلة بالاستهلاك الطبي لتكاليف السلع والخدمات المستخدمة في قطاع الصحة وإدارة مؤسسات الخدمات التي تتنافس في الحماية الصحية. وهذا هو المبرر الأول لظهور الاقتصاد الصحي. ويترتب على هذا مبرر ثان، يتمثل في أهمية توفير الموارد الصحية الكافية لتحقيق المشاريع الصحية اللازمة لرفع المستوى الصحي. إن هناك مجموعتين كبيرتين من الدراسات الاقتصادية الممكن عملها: تلك التي تحاول تحديد القسم الملائم تخصيصه للقطاع الصحي داخل مجموع اقتصاد البلد، حيث نهتم بتحديد معايير الاختيار بين الصحة والقطاعات الكبيرة الأخرى للإستثمار الجماعي كالزراعة والصناعة والنقل. ويبدو أنه من المتعذر تنفيذ مثل هذه الدراسة في الوقت الحاضر. وذلك بسبب غياب وحدة قياس تبين الفوائد -التكاليف للإستثمارات في مختلف القطاعات الاقتصادية، حيث إن الوحدة المالية يصعب استخدامها في نطاق الصحة وخاصة أنه لا يوجد سعر للصحة. أما المجموعة الثانية من الدراسات الاقتصادية فهي التي تحاول تحديد نصيب كل قسم من أقسام القطاع الصحي من مجمل الموارد المخصصة لهذا القطاع ككل. حيث نهتم بالاختيارات الداخلية الملائم عملها ضمن القطاع الصحي، وهدفها تحديد سلم الأفضلية لنماذج مختلفة من الأعمال، فهل نبدأ بالعناية في المستشفيات أولاً أم بالعناية الطبية المتنقلة (كالتلقيح)، أم بالطب المهني المتعلق بحوادث العمل؟ وهل ترتكز الجهود الصحية لصالح فئة من السكان (كالقوة العاملة مثلاً) أم لفئة أخرى من السكان (كالمسنين). وهنا، نستطيع أن نتساءل عن سبيل المثال، كيف توزع الجهود الجماعية بين العناية والوقاية والبحث العلمي الطبي؟! ويبدو أن هذه الدراسة أكثر صلابة وعقلانية من الدراسة الأولى التي تهتم بتحديد معايير الاختيار بين الصحة والقطاعات الكبيرة الأخرى. إن من أهم ما ينبغي مراعاته ما يسميه الاقتصاديون (العقبات) ويعني، هذا القيود التي تفرض علينا الوسائل والإمكانيات الجاهزة من الكادر الطبي، والأدوات والفترة الزمنية اللازمة لتنفيذ الإنشاءات والموارد المالية. كما أن العقبات التقنية تكون أحياناً أكثر أهمية من المصاعب المالية، مثلاً، كيف يمكن توزيع أكبر قدر ممكن من الخدمات الصحية للمرضى بواسطة عدد محدود من الممرضات، وكيف نفحص أكبر عدد ممكن من المرضى بطريقة معمقة بواسطة عدد محدود من الأطباء؟! هذا يعني أن الأمر يتطلب تحليلاً دقيقاً. ولذا، فقد غدا هذا النوع من التحليل أي اختيار الأفضل بواسطة الآلات الحاسبة الإلكترونية في يومنا الحاضر أكثر تطبيقاً عملياً، حيث يسمح بتحديد تطوير المتغيرات الأخرى الأكثر ملاءمة من أجل العائدية والفعالية. وقد شرعت بعض الدول ببذل جهود مهمة في هذا المجال من عدة سنوات، إما بشكل مباشر من قبل الإدارات المعنية كوزارة الصحة، ووزارة المالية والاقتصاد الوطني ووزارة التخطيط، وإما بشكل غير مباشر بأن يعهد بها إلى الأقسام المتخصصة في مجال الاقتصاد الصحي ضمن الأكاديميات العلمية (الجامعات)، أو لمراكز البحوث العلمية الوطنية. ذلك، لأنه إذا كان الإنسان هو غاية التنمية ووسيلتها في الوقت نفسه، فإن مراعاة الجانب الصحي لديه يعد واجباً أساسياً. عضو هيئة التدريس بجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية