الحياة "العفويات"..، ذلك لأن ما يحدث "عفويا"، يصدر من جوهر "أجهزة" إنسانية نظيفة لم تصدأ بعد..، لم تعطلها "أغبرة" الزمن، أو تلوثها ملوثات الحياة. إذن فالعفوي من المنطوق أو المفعول هو "حقيقة" الحقيقة، من حيث إن صدوره "طازة"..، بكل تلقائية، يمنحه مكاناً ثابتاً في خارطة البراءة والصدق الإنساني، بل يمنحه جواز سفر عبر أجواء الكيانات والضمائر الإنسانية. فالعفوي يخلو من أية إضافات اصطناعية "تربصية/ ترصدية"، فيبدو طبيعياً، والطبيعي من الأشياء هو أجملها، وهذا هو سر عالمية أو إنسانية العديد من الأقوال المتمحورة حول "العفوي/ التلقائي" من أغراض الأزمان، ألا وهم البشر. ف "ما يصدر عن القلب يدخل في القلب"..، وما هو "من القلب للقلب رسول". هذا وبما أن العفوية لا تتوفر في كل "قلب"، فمساحات فهمها لاتتوفر لدى كل فرد، وثمة أمثلة وأمثلة على ذلك، ولنا القدوة والنبراس في المواقف العديدة التي يتجلى بها تقديره صلى الله عليه وسلم "للعفوي" من النطق أو السلوك، كما في واقعة الرجل الذي بال في المسجد، وحينما همّ بعض الصحابة رضي الله عنهم بالفتك به، بادر عليه أفضل الصلوات والتسليم طالباً منهم الارعواء عن ذلك، بل الرفق به، وسبب ذلك ما علمه النبي المصطفى من عفوية الرجل الفطرية، حيث قد وفد لحظتها من الصحراء. ومثلها قصة الرجل الذي أقسم على الله أن يستجيب له، وكذلك قصة الشاب الذي أتى إليه عليه الصلاة والسلام طالباً منه السماح له بالزنا، وغير ذلك الكثير من المبادئ الخالدة. بل إن من ضمن قصص "العفوية"، القصة التاريخية المنسوبة إلى "علي بن الجهم"، الشاعر الذي مدح أحد الخلفاء بقوله: أنت كالكلب في وفائك بالعهد وكالتيس في قراع الخطوب إذ غضب عليه من غضب من حاشية الخلفية، غير أن الخليفة المعني أخبرهم بأن الرجل قد مدحه بأحسن ما يملك، بوصفه بدوياً، قد وفد لتوه من الصحراء، ولهذا وجههم بأخذه إلى حيث امتزجت الحضارتان العربية والفارسية على ضفاف النهرين: العراق، وهناك يستنسخه "الثلاثي الحسن" الماء والخضرة والوجه الحسن، مخلوقاً آخر، فيتحول الشاعر البدوي الخشن.. الفظ إلى عاشق، مرهف الحس، مفعم الإحساس، تعروه الرقة، وتجري في عروقه الرومانسية، إذ قد روَّضه الجَمَال، وقتل "التجمل" عفويته!، فاستنطقه صادحاً بأغزل بيت قالته العرب.. نصه.. عيون المها بين الرصافة والجسر جلبن الهوى من حيث أدري ولاأدري جدير بالذكر إن ثمة روايات تاريخية تشكك في صحة هذه القصة، وعلى وجه التحديد، فيما يتعلق بشخصية بطلها "علي بن الجهم"، ومع ذلك "ما علينا!" فالقصة جميلة على كل حال، حتى لو كان مبعثها الخيال..، ولم لا؟! أوليس ما ينجزه الخيال إبداعاً بذاته؟!.. إذن فكبت "الخيال" قتل للعفوية، واستنبات لأشواك سوء الظن، وسهام الترصد، وأسنة الشك، فثمة "قتل مُتعمد" للجمال من خلال قتل الجميل من الروايات في التاريخ العربي، حين تجد من لا يتوانى عن التشكيك في الروايات المفعمة بالحب والمحبين، كتلك المذكورة آنفاً، إضافة إلى قصص الحب والهيام كقصة قيس وليلى، ومثلها قصة كثير عزة، وبعض من مغامرات عمر بن أبي ربيعة..، وغيرها الكثير مما لم يعجب "قاتلي العفوية" من المؤرخين.. سدنة الحزن وحراس الكآبة؟ فالحياة العفويات.. وموت العفوية هو موت معنوية الحياة، إذ العفوية "البراءة"، ولعمري من ذا الذي يحيي البراءة بعد موتها إلا الله سبحانه..؟! ومهما كان وسوف يكون.. فهلا تقوم الآن بتعداد كم مات "فيك".. أو منك من "عفوية؟!" لو لعلك بريء.. "حتى الآن..؟!"، إذن فدعني أدعوك للتأمل في قول الشاعر، فالتمعن في أبعاد موت العفوية لديه إلى درجة انقلاب معادلة "الاستئناس والتوحش" الغرائزيةفي كيانه، استدلالا بوحشته من أخيه الإنسان، واستئناسه بآكل الإنسان: الذئب..! وذلك حين قال: عوى الذئب فاستأنست للذئب إذ عوى وصوّت إنسان فكدت أطير