الرضا عن النفس هو أقصى ما يطمح إليه الإنسان العاقل الرشيد في حياته الدنيا وهو لا يعتمد أساسا على ما حصله المرء من زخرف الحياة الدنيا وزينتها بل يعتمد على إحساس الواحد منا بأنه أدى ما عليه تجاه ربه.. وتجاه الناس.. وتجاه نفسه.. بقدر استطاعته وفي حدود إمكانياته.. أما العوامل الخارجية والتي يظن الناس خطأ بأنها توفر السعادة في الدنيا مثل المال والبنين والصحة والإمكانيات الضخمة.. إلخ.. فهي وإن كانت زينة الحياة الدنيا إلا أنها لا تجلب السعادة لسببين الأول: إنها موقوتة وزائلة والثاني: أن الحياة الدنيا مهما توافر فيها من حظوظ: فيلات.. سيارات فارهة.. أرصدة في البنوك فهي لا تخلو من منغصات أو مضايقات أو واجبات أو مسؤوليات تحد من الاستمتاع بما لدينا أو تعكر صفو هذا الاستمتاع فلابد أن يكون هناك نقص ما، إن توافر المال فقد لا تتوافر الصحة وإن وجدت الصحة قد لا يوجد المال وإن وجد المال والصحة معا فقد تكون للمرء زوجة تنغص صفوة حياته (!!) أو زوج انتهازي لزوجة ذات حسب ونسب ومال وجمال مما يجعل الحياة بالنسبة لها جحيما لا يطاق (!!) المهم أن حياتنا الأولى لا يمكن أن تكون خالية من الإكدار مهما توافر لنا فيها من أسباب النعيم والذي سيكون موضعا للحساب والمساءلة يوم القيامة (ثم لتسألن يومئذ عن النعيم) سورة التكاثر آية 8. فالسعادة مكانها حياتنا الآخرة لمن كان يرجو الله واليوم الآخر وذكر الله كثيرا، كذلك فإن الشقاء الحقيقي هو في الآخرة لمن لم يكن يرجو الله واليوم الآخر..وأعرض عن ذكر ربه.. وفي ذلك يتحدث رب العزة عن يوم القيامة والذي تتحد فيه مصائر الخلائق حيث ينقسمون إلى فريقين شقي وسعيد (يوم يأت لا تكلم نفس إلا بإذنه فمنهم شقي وسعيد فأما الذين شقوا ففي النار لهم فيها زفير وشهيق خالدين فيها ما دامت السماوات والأرض إلا ما شاء ربك إن ربك فعال لما يريد وأما الذين سعدوا ففي الجنة خالدين فيها ما دامت السماوات والأرض إلا ما شاء ربك عطاء غير مجذوذ) سورة هود آية 105 108. وغير مجذوذ أي غير منقطع.. ونقول إن السعادة ليس مكانها الحياة الدنيا (أو حياتنا الأولى) مهما توافر للبعض من إمكانيات..والشقاء ليس مكانه الحياة الدنيا أيضا حتى مع الحرمان من أشياء كثيرة.. لأن السعادة والشقاء هما في الآخرة وليسا في الدنيا.. فكما أن السعادة ليست في القصور والفيلات والسيارات الفارهة والأرصدة الضخمة في البنوك وفي حيازة الأسهم والسندات وتملك الأراضي الزراعية وأراضي البناء فإن الشقاء لا يكمن في الفقر أو ضيق ذات اليد أو عدم الإنجاب أو اعتلال الصحة.. الخ.. هذا وذاك أعراض زائلة.. والإنسان الذكي بعيد النظر هو الذي يرنو ببصره وبصيرته إلى الدار الآخرة التي إليها معاده والتي فيها مستقرة.. لا يسخط على قدره إذا لم تعطه الدنيا ما يؤمل فيه وهو لا يستسلم للظروف المعاكسة مهما كانت قاسية وإنما يكافح ويبذل قصارى جهده لرفع مستواه المعيشي بقدر الامكان ثم يحمد الله على ما رزقه وإن كان قليلا ويرضى عن سعيه .. هذا الإنسان قد يعتبره الجاهلون شقيا أو تعيسا في حين أنه ليس كذلك لأن الرضا عن النفس غير مرهون بما لدى الإنسان من متاع الحياة الدنيا وزينتها بل برضاه عن سعيه (وجوه يومئذ ناعمة لسعيها راضية في جنة عالية) سورة الغاشية آية 8 10. ولعل من بين هؤلاء الذين سعدوا بدخول الجنة من كان الناس يصفونهم بأنهم تعساء أو بؤساء.. والعكس صحيح لمن كانوا يصنفون في الحياة الدنيا بأنهم محظوظون في حين أنهم في واقع الأمر ليسوا محظوظين لأنهم أسرفوا على أنفسهم وظلموها (ترى الظالمين مشفقين مما كسبوا وهو واقع بهم والذين آمنوا وعملوا الصالحات في روضات الجنات لهم ما يشاؤون عند ربهم ذلك هو الفضل الكبير) سورة الشورى آية 22. الظالمون هم الأشقياء حقا مهما كانت حظوظهم في الدّنيا ومهما كان الترف الذي عاشوا فيه ونعموا به والصالحون هم السعداء حقا مهما كانت حظوظهم في الدنيا قليلة ونصيبهم من الترف منعدما.. الصالحون يمتدحهم الله ويثني عليهم بقوله عز من قائل (والذين يصلون ما أمر الله به أن يوصل ويخشون ربهم ويخافون سوء الحساب والذين صبروا ابتغاء وجه ربهم وأقاموا الصلاة وأنفقوا مما رزقناهم سراً وعلانية ويدرءون بالحسنة السيئة أولئك لهم عقبى الدار جنات عدن يدخلونها ومن صلح من آبائهم وأزواجهم وذرياتهم والملائكة يدخلون عليهم من كل باب سلام عليكم بما صبرتم فنعم عقبى الدار) سورة الرعد آية 21 24. فالصبر على ما يلاقيه الإنسان في الدنيا من ظروف معاكسة أو رزق قليل أو مرض أو فقد عزيز أو ضياع رأس مال وما شاكل ذلك هو الحكمة بعينها وترون معي أن رب العزة ذكر الصبر مرتين: الأولى: (والذين صبروا ابتغاء وجه ربهم). الثانية: (سلام عليكم بما صبرتم فنعم عقبى الدار). وقد نوه الله بالإنفاق أي الصدقة (وأنفقوا مما رزقناهم سراً وعلانية) ويستطيع من قدر الله عليه رزقه أن يتصدق ولو بالقليل.. فليس المهم الكثرة وإنما كل على قدر سعته ويدرءون بالحسنة السيئة أي إذا بدر منهم ذنب سارعوا إلى إبطاله وإقصائه عنهم بفعل الخيرات مصداقا لقوله تعالى (إن الحسنات يذهبن السيئات) سورة هود آية 114. وقوله صلى الله عليه وسلم (وأتبع السيئة الحسنة تمحها).. وكما يكون رضا الإنسان عن سعيه الذي يبتغي به وجه الله يكون رضا الواحد منا عما قسم الله له وإن كان قليلا في أعين الناس وهذا عكس السخط فمن الناس والعياذ بالله من تجده ساخطا من حظه في الدنيا ساخطا على الناس من حوله ساخطا على كل شيء تقريبا لا شيء يرضيه وينظر إلى الدنيا بمنظار أسود وهذا من أسوأ ما يمكن أن يكون عليه إنسان أن يسخط على قدره وحظه وألا يرضى بما قسمه الله له ومن بين هؤلاء الساخطين من رزقه الله رزقا حسنا ولكنه لا يراه كذلك بل ينقص من قدر ما أعطاه الله. الرضا نعمة والسخط نقمة ينبغي أن يستعيذ الإنسان منه ومن شروره. الرضا يجلب طمأنينة النفس والسخط يطردها ويطاردها.. الرضا يشيع البهجة في حياة الإنسان والسخط يشيع الكآبة. الرضا يجعل المرء يفرح بالقليل والسخط يجعله يرى كثير النعمة قليلا. الراضون في الدنيا عن أنفسهم وعن سعيهم كانوا مشغولين بالآخرة أكثر من انشغالهم بالدنيا وما فيها وكانوا مشفقين من يوم الحساب.. هؤلاء منّ الله عليهم ووقاهم عذاب الجحيم.. هؤلاء في الآخرة يتذكرون فيما بينهم وهم يتقلبون في نعيم الجنة أنهم أحسنوا السعي في الدنيا من أجل الفوز برضوان الله (وأقبل بعضهم على بعض يتساءلون قالوا إنا كنا قبل في أهلنا مشفقين فمنّ الله علينا ووقانا عذاب السموم إنا كنا من قبل ندعوه إنه هو البر الرحيم) سورة الطور آية 25 28. وكنا قبل في أهلنا مشفقين أي كنا مشفقين من سوء المال يوم القيامة فاتقينا الله ودعوناه أن يغفر لنا ذنوبنا فتقبل الله دعاءنا وغفر لنا ووقانا عذاب النار.. وما يقولونه يعبر عن رضاهم عن سعيهم في الدنيا وأنهم كانوا يعملون حسابا للآخرة فلم يتشاغلوا عنها ولم تلههم الحياة الدنيا بمباهجها وزخرفها وزينتها فجزاهم الله بأحسن ما عملوا وأدخلهم في رحمته ورضوانه. هؤلاء الراضون عن سعيهم بما قسم الله لهم يرجى أن يكونوا إن شاء الله ممن رضي عنهم ربهم ورضوا هم عن ربهم فالرضا يعمهم من جميع أقطارهم والفوز العظيم من نصيبهم (رضي الله عنهم ورضوا عنه ذلك الفوز العظيم) سورة المائدة آية 119. مالك ناصر درار