خلال شهر أغسطس قمت بزيارة الولاياتالمتحدة لأول مرة في حياتي، بحثا عن الثقافة الأمريكية المعاصرة في متاحف الفنون الجميلة ودور المسرح الأمريكي. سبق لي الكتابة عن المسرح الأمريكي(1)، كما أتيحت لي فرصة اخراج مسرحية الدرامي الأمريكي آرثر ميللر المعنونة «مشهد من الجسر» لأول مرة في تاريخ المسرح المصري بتمثيل المسرح القومي المصري عام 1964. في زيارتي لولايات أيوا، نبراسكا، إلينوي، نيويورك.. استوقفني مسرح ولاية مينيسوتا. لماذا؟!. في هذه الولاية صغيرة الحجم والرقعة تعمل ستة مسارح طوال العام تقريبا، هي مسارح تشانهاسن دينر، كريكات، دودلي ريجز، أولد لوج، أورفايوم، جوثري. لن أتعرض في المقال إلا للمسرح الأخير. فهو يحمل اسم السير الانجليزي تايرون جوثري من مواليد 2/7/1900 مخرج الدرامات العويصة في مسرح الأولدفيك الانجليزي، ثم يدير المسرح، كما يدير كثيرا من الأوبرات الانجليزية وكذا مهرجان أدنبرة بأسكتلندا، حتى يصل الى مينيابوليس عاصمة ولاية مينيسوتا لينشىء بها مسرحه الخاص، كما ينشىء مهرجان استراتفورد شيكسبير في كندا. أهم أبحاثه المسرحية تنشره مجلة ENCORE مجلة المسرح الانجليزي بعنوان «قارىء المرة الثانية» يتناول وظائف الاستوديوهات الجديدة في الحركة المسرحية العالمية. في البحث يُرجع جوثري حركة الاستوديوهات التي قامت في الولاياتالمتحدةالأمريكية في الستينيات من القرن العشرين الى أساس حركة الاستوديوهات التي فجرها ستانسلافسكي قبلا في «الاتحاد السوفيتي»، ومعترفا بأن تطور المسرح مرتبط بالتجريب النافع والمفيد. فالاستوديو هو المعبد الجديد الذي يستقبل الباحثين الجادين في قنوات المسرح. ويعترض جوثري على قيام التجريب في مسارح نيويورك وحدها، فكل مكان يستأهل التجريب لمزيد من البحث العلمي في فنون المسرح. يعترض جوثري على تجريب استوديو نيويورك، رغم احترامه لمؤسس الاستوديو لي استراسبرج واعترافه بمنهجه التعليمي، ورغم تتبعه الدقيق لمنهج استوديو ستانسلافسكي خاصة جزئية معايشة الدور المسرحي. وتتلخص اعتراضات جوثري على الاستوديو الأمريكي في النقاط التالية: 1 ان الثورة الفنية التي يدعو لها الاستوديو قد فات أوانها. 2 ينحاز برنامج الاستوديو الى التحليل الذاتي النابع من الممثلين، الأمر الذي يحملهم إما تبعات كبرى وإما تفريطاً في حق وقواعد المهنة. 3 مرور زمن طويل للتطبيق على ما يقترحه الممثلون. 4 اهمال الجوانب التقنية في العمل الفني. 5 وضعية الفروق الاجتماعية والسياسية والاقتصادية بين المجتمعات. صحيح ان العالم تغير مذ وضع ستانسلافسكي منهجه في روسيا، لكن الانسان نفسه لم يتغير بسرعة هذه المتغيرات، وطبيعي ان يراعى ستانسلافسكي الموقف الاجتماعي في بلده وهو يضع منهجه أو طريقته كما يطلق عليها. وهو موقف كان يتضاد مع طبقة الإليت ومطالبها في الحياة، وفي المسرح أيضا إذ كان المسرح الفرنسي ساعتها لايزال غارقا في مسرحيات الفودفيل وعروض البوليفار الرخيصة. وانتهى جوثري الى رأي هام. ان الأول ستانسلافسكي وضع طريقته نتيجة الانصات لفن التمثيل وقرارات اصلاحه وتقويمه. أما الثاني لي استراسبرج فقد استند في نظريته الى معالم وقواعد نظرية أخرى سبقته، وبذلك تنتفي عن النظرية الأمريكية صفة «الأصالة» أحد العوامل الهامة في عملية الابتكار. لم تكن طريقة ستانسلافسكي شائعة كما هي اليوم في تعليم التمثيل في الجامعات. إذ لم تتسع شهرته في أمريكا إلا بعد ترجمة كتابه المعنون «حياتي في الفن» عام 1926م. * الموسم المسرحي 2001 2002: يقابل ستة مسارح مينيسوتا اثنان وعشرون مسرحا في ولاية نيويورك هي: اتكينسون، باري مور، بومونت، بوث، برود هيرست، مسرح الحلقة في المربع، جيرشوين، هايس، إمبريال، كير «باسم والتركير الناقد المسرحي الأمريكي»، لانت فونتين، ماجستيك، ماركيوس، مارتن بك، مينسكوف، صندوق الموسيقى، رودجرز، سان جيمس، سيمون، شوبيرت، «نسبة الى الموسيقي النمساوي فرانز شوبيرت، فرجينيا، مسرح حديقة الشتاء.أما المسرحيات المخصصة للعرض في الموسم فهي: أماديس للانجليزي بيتر شافر بإخراج جودولنج، بنات ذو الخُرج كتبها هورتون فوتا ويخرجها ميكائيل ولسون «بطلها أحد أبناء الشمال الأمريكي الذين هرعوا الى الولايات الجنوبية وليس معه غير ما حمله في خرجه، التماسا للربح الشخصي عقب الحرب الأهلية الأمريكية»، ثم عرض شيكسبير أنطونيوس وكليوباترا من اخراج مارك لاموس، وتحكي قصة القوة والرغبة القوية والضعف البشري عند البطل الروماني والملكة المصرية، بعدها يأتي عرض نهر لص بطلاها شخصيتان هما جيل وراي في سن الشباب قدما من الغرب الأوسط بالولاياتالمتحدة في رحلة بحث عن اكتشاف نفسيهما، ولا يقتربان من طريق التقارب إلا في سن الخامسة والخمسين. ويكمل مسرح مينيسوتا برنامجه للريبرتوار بمسرحية عشر بنايات على الطريق الرئيسي للكاتب الشهير تينسي وليامز ومن اخراج ميكائيل خان حيث تتحدث عن رحلة انسان وسط عالم يناصبه العداء بعد ان لم يبق له من الطريق الرئيسي لحياته غير البؤس والشقاء اللذين يدفعانه الى الوحشية والاحتيال.. وأخيرا الى الموت. الى جانب مسرحية أغنية الكريسماس عند احدى قصص تشارلز ديكنز بإخراج يبا، أما المسرحية السابعة فهي بعنوان «دا» من تأليف هوج ليونارد واخراج دوج يودجز وهي مسرحية حائزة على جائزة توني للتأليف المسرحي. وأمام سبع مسرحيات جادة يخصص المسرح في نفس الموسم مسرحيتين موسيقيتين. الأولى تحدث بسهولة أو الجنتلمان المصنوع بطريقة غير مشروعة. والمسرحية مأخوذة عن أصل مسرحية لموليير بعنوان البرجوازي النبيل، لكن بإضافة دراماتورجية معاصرة من جيفري هاتشر، وهي من اعداد واخراج ميكائيل بوجدانوف. أما الدراما الموسيقية الثانية فعنوانها «نتمايل» في مسرح الى الأمام وضع الأغاني والموسيقى ستيفن سونوهايم ويخرجها جون ميللر استيفاني. معادلة درامية لموسم مسرحي يقدم أغلب نوعيات الدراما التاريخية والاجتماعية والنفسية والتراجيدية والكوميدية، وبكم مقبول وميزان لا يحيد، ولا يرتمي في أحضان الاستعراضيات والغنائيات والموسيقيات. ألم يأن الأوان للمسارح العربية لتعلم نهج المسرح المحترم؟. وهل تعلم المسارح الخاصة في الوطن العربي وأصحابها التجاريون أن اسعار تذكرة الدخول هي 16، 21، 30، 36 دولارا؟ وان عليهم لاستقطاب الجماهير خفض تذاكرهم التي تتراوح ما بين 50، 200 جنيه، مع الفارق الشاسع في كل شيء من الألف الى الياء. ان الاقتراب من الجماهير هو سبب انتعاش المسرح في العالم. ومسرح جوثري الأمريكي في مينيسوتا بقيادة المدير الفني جو دولنج يقدم في صالة المسرح مساحة خاصة للمقعدين يدخلون إليها بعجلاتهم، كما يضمن لضعاف السمع موجة خاصة على fm تعينهم على الاستماع العالي والجيد في آن واحد دون ازعاج بقية النظارة. أما الجماهير التي فقدت نعمة البصر فيعد لهم المسرح نظام أجهزة بريل BRAILLE حتى يتساووا مع بقية الجماهير. كل الرجاء ان ينتبه مسرحنا العربي الى هذه الانسانيات الرائعة التي يقدمها مسرح معاصر يحاول ان ينشر مختلف الثقافات المحلية والعالمية عبر بسمات وشفاه الجماهير. إنني مدين للأستاذ طارق سعيد أحمد والسيدة الفاضلة نهلة الفحام اللذين أمداني بالعديد من معلومات هذا المقال. هامش: (1) أ ترجمة لدراسة آرثر ميللر. كتاب دراسات في الأدب والمسرح. الدار المصرية للتأليف والترجمة. القاهرة 1966. يفند ميللر مسرحه بالالتصاق بعبارة واحد تقول:«ان للحياة معنى». ورأيه عن الجماهير أنها كالجمع الغفير يحارب كل فرد فيه مع نفسه وبينه وبين نفسه.. يحارب مع مخاوفه وآلامه ويوم حشره، كما يحارب مع الشيء الذي يعجب به ويفصله هو نفسه عن الانسانية الحقة في هذه الحياة. ب دراستي بعنوان «تأثير مدرسة الناقد الأمريكي والتر كير النقدية الهجومية على المسرح الأمريكي، وهو الناقد الفني الأول لجريدة الهيرالد تربيون. كتاب المسرح بين الفكرة والتجريب. المنشأة العامة للنشر والتوزيع والاعلان، طرابلس ليبيا 1394ه. رغم النقد اللاذع الذي وجهه كير لمسرحه الأمريكي والذي يصل الى حد الشدة أحيانا، فإنني أرى ان المسرح الأمريكي لا يزال منتعشا بأسماء دراميين كبار «ميللر، تينسى وليامز، ادوارد أُلبي». لكنه من الواضح ان الولاياتالمتحدةالأمريكية عبر حياتها الأدبية المعاصرة لم تستطع ان تنجب من يقف على قمة تمثال الحرية معلنا نفسه وكاشفا عن ابداعاته الدرامية من قوة وأصالة على نفس المقياس الذي وقف فيه كتابها الكبار بدءا من يوجين أونيل وانتهاء بميللر، وبدون اهدار لزملائه ادوارد أُلبي، نيل سيمون، ثورنتون وايلدر.