الدارس للثقافة الإيطالية ومراحل تطورها، يعثر على اهتمامات عديدة تتسم بالأساس العلمي لبناء حركة مسرحية منذ عصر القرون الوسطى, فقد كانت العاصمة روما، وإيطاليا كدولة من أقوى الدول الأوروبية في القرن الثالث قبل الميلاد, وأتاح هذا التقدم لثلاثة من الدراميين بناء العصر الذهبي للكوميديا في روما,, كاسيليوس، ترانتيوس ، بلاوتوس (1) . إن أهم خطط الثقافة المسرحية قد تجلت في علم الدراماتورجيا، دراسة المنظور Perspective للديكور، ترجمة الكلاسيكيات ، زيادة دور العروض المسرحية إنشاء، التجهيز علميا للإطار المادي، ميلاد فنون الأوراتوريو Oratorio والأوبرا Opera، الكوميديا دي لارتيCommedia Dell'arte. احتفالات النصر والزواج: وهي الجسر الذي مهد لمسرح عصر النهضة الإيطالي، وأشهرها احتفال ألفونز الكبير Alfonz في نابولي عام 1443م، واحتفالات عام 1513م باختيار البابا ليو العاشر Leo . هذه الاحتفالات التي تقام على عربات مزخرفة وفي اعتماد على أصول فن الرسم. أما كرنفالات الزواج فقد اشتملت على مسرحيات قصيرة (كرنفال عام 1488 م بمناسبة زواج أمير ميلانو برجونزو بوتا B.Botta من ايزابيلا الأراجونية Isabella). الترجمات: في أي نهضة ثقافية أو مسرحية تمثل الترجمات من الآداب الأخرى عاملاً أساسياً في حركة النهضة فهي تفتح أبواب المحلية المغلقة، دون أن تحل مكان الآداب المحلية والقومية ,والدليل أنه كان من نتائج ترجمات الإيطاليين لآداب الإغريق وغيرهم على يد بلاوتوس، باندولفو كولينوكو ، جيرولامو بيراردو P.Collenuccio ، G.Berardo ظهور اللغة الدرامية لأول مرة في البلاد الأوروبية عامة مسلحة بالمعنى الدقيق لمفهوم لفظة الدراما وما تحمله من خصائص تتباين مع آداب القصة والرواية وغيرها, وهو ما ميز المدن الإيطالية في بدايات عصر النهضة باعتبارها صدر المراكز الثقافية في كل القارة الأوروبية (فينيسيا ، فيرنزا ، فيرارا ، روما). وفي ستينيات القرن العشرين قدمت حركة الترجمة للدرامات في مصر أعمال تشيكوف، جوركي، ناظم حكمت، برخت، اسكيلوس، أرسطوفاينس، دورينمات، ماكس فريش، آرثر ميللر، تينسي وليامز، ثورنتون وايلدر، شيكسبير، موليير، إبسن وعشرات آخرين طعم الآداب العالمية لجماهير لم تتذوقها من قبل، مما ظلت آثاره حتى اليوم بارزة في كتابات الدراميين المصريين الذين لم يدخلوا ولله الحمد أزقة المسرح الأهلي الخاص. المنظور وهندسة المعمار: ماذا تعني لفظة المنظور في العمل الفني ؟ إنها تعني فن الفرجة سليما, فالرسم المنظوري هو فن رسم المناظر والديكور بطريقة تحدث في النفس عين الانطباع من حيث الأبعاد النسبية والحجم الذي تحدثه هي ذاتها حين ينظر إليها من نقطة معينة أي أن المنظور هو مظهر الموضوع كما يتبدى للعقل من زاوية معينة، والقدرة على رؤية الأشياء وفقا لعلاقاتها الصحيحة. اجتهد الإيطاليون بالمنظور على خشبة المسرح نظريا وتطبيقيا , ينظر سبستيانو سرليو (1475 - 1554م) S.Serlio لفكرة المنظور مؤلفا كتابه (المعمار) Architettura عام 1545م الذي سرعان ما يترجم إلى لغات حية أوروبية، إلى جانب تصميمه وتنفيذه لعشرات من مناظر المسرحيات, وفي استناد على أول كتاب عن المنظور بعنوان (عشر كتب في المعمار) De Architectura Libri Decem كان قد صدر عام 1486م للمهندس الإيطالي فتروفيوس بوليورV.Pollio وفي عام 1568 يصدر دانيللي بربارو D.Barbaro كتابه تمارين المنظور Practica Della Prospettiva وبعد تصميمات لعديد من ديكورات العروض المسرحية وفي فيرنزا يكتب جاكوبو باروزي فينولا (1507 - 1573م )J.B.vignola مؤلَّفه قاعدتا المنظور La Due Regole Della Prospettiva. وفي عام 1600م يظهر كتاب جودو أبالدوس (1545 - 1607م G.Ubaldus بعنوان ستة محاور للمنظور Perspective Libri Sex في ربط عام لعلوم الرياضيات Mathematics بتقنينية وانضباط دقيقين بين المناظر على خشبة المسرح ورؤية المتفرجين في الصالة, إلا أن تأثير أعمال المنظور في ديكورات الإيطالي أندريا باللاريو (1508 - 1580م) تبقت آثاره في بنائه لمسرح فيتشنزا أولمبيكو Teatro Olimpico أعظم مسارح عصر النهضة الإيطالي , وأعجب المخرجين أو هكذا يسمون أنفسهم يتدخلون في هندسة المعمار وهم أبعد ما يكونون عن تفسير لفظة المنظور في المسرح, لقد تعلمت كل أوروبا من قواعد علم المنظور الإيطالي الذي ساعد بعد ذلك على استخدام أمثل للإضاءة المسرحية في عصر الكهرباء خصوصاً بعد أن توفرت الرؤيا للمتفرج كاملة بصرف النظر عن مكان كرسيه في صالة الجمهور. زيادة الدُور المسرحية: ترتبط أية نهضة مسرحية بوجود دور مسرحية لائقة بجماهير تؤمها في احتفالية للفرجة, ولياقة المبنى لا ترتبط ببرجوازيته أو فخامته بقدر ما ترتبط بالراحة بدل الزخرفيات، وإمكانية تطبيق العمل الفني في بساطة، دون تقصير في عناصر الفرجة من أجهزة إضاءة وخدع مسرحية وتقنية مبهرة للمتفرجين، وخشبة مسرح متواضعة لكنها نظيفة منسقة. اهتمت الحكومات الإيطالية بفائدة انتشار فنون التمثيل للجماهير، فبنت مسرح سان سلفادور Teatro Di San Salvador عام 1622 م الذي حمل اسم مسرح جولدوني بدءاً من عام 1818م (كارلو جولدوني أحد أبرز كتاب الكوميديا الإيطاليين في القرن 18 ميلادي)، في 1678 م ينشأ مسرح سان جيوفاني San Giovanni كأكبر دار للأوبرا في فينيسيا , في عام 1755 يبنى مسرح سان بناديتو San Benedetto الذي يتحول عام 1821 إلى مسرح روسيني Rossini (واحد من أكبر واضعي ألحان الأوبرا الإيطالية) عام 1819م تبني الدولة مسرح ريال الأوبرا Real Dell'Opera في العاصمة روما، وعام 1822 مسرح فاللي Valle وعام 1871 م مسرح كويرينو Quirino ، وعام 1886م المسرح الدرامي القومي Teatro Drammatico Nazionale ثم مسرح أليسيو Eliseo في عام 1910م , قامت إيطاليا بإنشاء هذه الدور المسرحية رغم عدم وجود فرق مسرحية تعمل بنظام الاستمرار اليومي للعروض المسرحية , بل كانت تشغلها بين الحين والحين الفرق المسرحية الجوالة Stagione الأمر الذي لا يزال قائما حتى يومنا هذا، باستثناء دار الاوبرا الإيطالية التي تعمل في استمرارية يومية. شعراء الدراما: يفوق الشعر الإيطالي كثيراً من الأشعار الأوروبية ويبدو لي أن شاعرهم الكبير دانتي اللجييري قد نفث نفحته الشعرية التي لاتزال سارية حتى اليوم في أشعار وطنه (في ثمانينيات القرن العشرين نال الصديق الأديب الليبي خليفة التليسي وزير الثقافة الاسبق هناك الجائزة الأولى للكتابة الإيطالية شعرا) وهو ما يدلل على انتشار الشعر الإيطالي في أماكن من الوطن العربي . لقد برزت الدراما الشعرية الإيطالية متفوقة على الدرامات النثرية لجزالة الشعر، رغم صعوبة الكتابة به دراميا , فالتوفيق بين إيقاع الجملة النثرية وإخضاعها لإيقاع البيت الشعري وموسيقاه لا يزال من الصعوبة بمكان، وهي مرحلة لم يصل إليها الشاعر العربي المصري أحمد شوقي إلا في مسرحياته الشعرية الأخيرة، تماما مثل زميله الشاعر عبدالرحمن الشرقاوي، إذ يبدو الفرق واضحا بين درامته الأولى جميلة بوحيرد وبين درامته المتأخرة الفتى مهران. برز الشعر الدرامي الإيطالي خلال القرن 19 ميلادي في درامات الشاعر سلفيو بالليكو (دراميته فرانسيسكا دا ريميني، سجوني) (2) حيث يقترب في الثانية من التأثير الرومانتيكي للشعر الفرنسي بعد الثورة الفرنسية , واشترك في إحياء الدراما الشعرية ألساندرو مانزوني (1785 - 1873م) فدرامته الشعرية (الخطيبان) I Promessi Sposi تحقق نظرية الدراما وتطبيقاتها مسرحيا، كما أن درامته المعنونة (كارمانولا) Carmagnola تبحث مشكلة الوحدة الإيطالية حين تعلن عن ذلك إحدى شخصيات الكورس بقولها إخوة وطن يقتلون إخوتهم . درامات المواطنين: وهي مرحلة كُتاب الدراما التنويريين يتزعمهم جيوفان باتيستا نيكوليني (1782 - 1861م) G.B.Niccolini بدرامات رومانتيكية تستهدف حاجات المواطنين في الإشباع الجمالي، باولو جياكوميتي (1816 - 1882م) P.Giacometti بدرامات اكثر وحشية في رومانتيكياتها تأثرا بالرومانتيكية الفرنسية (كما يبدو في درامته موت مواطن La Morte Civile , ويتبع الدرامي الإيطالي باولو فيراري 1822 - 1889م) P. Ferrari الدراما الفرنسية عند الكسندر ريماس الابن في إبراز القاع في حياة المواطنين ودفاعا عنهم في أشهر مسرحياته المعنونة (جولدوني وستة عشر كوميديا جديدة) Goldoni ELe Sue Sedici Comedie Nuove وكذا بقية أعماله التسعة والثلاثين وأعظمها (المبارزة) Il Duello ، (الضحلة) Il ridiculo ، (المرأتان) le Due Dame . وضمن مرحلة دراما المواطنين يكتب بيوترو كوسا ( 1830 - 1881م) درامته (نيرون) Neron وهو لا يُظهر السفاح الذي أحرق روما كرجل دولة ، لكنه يبرز اللاإنسانية الخاصة في حياته، التي أضرت بمجموع مواطنيه من شعب إيطاليا غالبية الطبقة الوسطى. تمتد جهود درامات المواطنين إلى القرن العشرين، وتخطو آداب مدرسة صقلية إلى عالم الدراما في أعمال الدراما لويجي كابووانا (1839 - 1915م) بدرامته (جياشنتا) Giacinta لتأكيد خط الطبقة الوسطى في المسرح، ثم بدرامته الثانية (ماليا) Malia التي تدخل بها المرأة البطلة ماليا إلى عالم المنطق وأصوله , وهكذا تصل درامات المواطنين إلى تيار الواقعية في الأدب المسرحي بكل ما تحمله الواقعية من مرارة، كما تبدو في أعمال الدراميين جوزيبي جياكوسا (1847 - 1906م) بدراميته (الأحباب المتألمون) tristi Amori ، (كما في الخطابات) Come Le Foglie وجيوفاني بوفيو G. Bovio (1837 - 1903م) بأعمال علمانية تكشف عالم الخداع المتربص بطبقة المواطنين. ميلاد فن الأوبرا والأوراتوريو: سبق فن الأوراتوريو ظهور فن الأوبرا بعشر سنوات . وتبارى الألمان والنمساويون في هذا النوع الذي لا تزال عروضه حتى اليوم في مسارح أوروبا (أوراتوريو عيد الميلاد ، إيليجا ، جفثا). أما فن الأوبرا، فهو مؤلف موسيقى غير متقيد بشكل Form إلا في الافتتاحية , واسم أوبرا هو اختصار لاسمها الإيطالي الكامل opera in musica, تكتب الأوبرا بالشعر وتستعين بالمناظر والديكور والأزياء والإكسسوار والأوركسترا السيمفوني باعتبار أن العامل الأساسي فيها هو الموسيقى. لذلك تُنسب الأوبرا إلى المؤلف الموسيقي وليس إلى مؤلف الأشعار (أوبرا عايدة فردي وليس جيشلانزوني ، أوبرا كارمن تنسب لبيزيه وليس لكاتبيها مايلهاك ،هاليفي) , بيري Peri هو مؤلف الأوبرا الأولى في العالم المعروفة باسم دافني Daphne من أشعار كاتشيني caccini. بعدها يكتب موسيقيا ميتاستاسيو Metastasio أوبرا يوريديتشي Euridici ثاني الأوبرات عام 1600م، ويكتب مونتفردي Montverdi أوبرا أورفيو Orfeo موسيقيا على أشعار إسترجو Streggio . في ألمانيا يعتمد انطلاق الأوبرا على جهود جلوك Glick ، وفي النمسا عند موزارت Mozart بموسيقى حلوة غاية في الجمال. ويكشف عصر الرومانتيكية الألمانية عن فيبر Weber فاتحة عصر التطوير الموسيقي بادخاله القصص الشعبية في فن الأوبرا برجوازي الشكل , فيؤلف بيتهوفن Beethoven عبقري الموسيقى الأوبرا الوحيدة اليتيمة فيديليو Fidelio إلى جانب سيمفونياته التسع وسوناتاته ورباعياته. هوامش: (1) T.M.Plautus, P.Terentius, Caecilius.