ظل متردداً في السير باتجاه ذلك الزمن الفاني.. الأنظار تترقب ذلك الصندوق الأسود المكبل بالقفل، والذي ظهرت عليه بوادر الصدأ.. حاول الابتعاد مزمجراً بأنفاسه، مكفهراً بوجهه.. حاول إلى أن جاءت تلك الإشارات المتدفقة بحنين الذاكرة ورائحة الماضي والتي دفعته بالسير إلى ذلك المجهول.. أخذ يفكر ويتذكر.. يفتح الصندوق.. أحياتي مكنوزة هنا؟ هل أجد ما طواه الزمن من ذكريات؟ ولماذا لم افتحه منذ ربع قرن؟ الخوف.. الحزن.. البكاء أفكار غريبة ظلت تلازمه إلى أن فتح أسطورة الماضي.. صور متعفنة، أوراق ملتوية، هدايا متهالكة.. أصابته بشعور الإنسان المغترب!! تشعبت الأفكار.. أخذت الذاكرة تطوي ما ابتلعه زمان الأسى.. الصور بدت هشة، غير واضحة.. بين ترسبات الماضي.. وقعت يده على صورة منها.. دقق متأملاً سكونها بعنف.. أين هم الآن؟ هل غادروا الحياة؟ أم أنها غادرتهم؟ ترى ما أحوالهم - أربعون عاماً مضت على فراقهم - لا يوجد اتصال سوى الدعاء لهم.. أخذ يعبث بالذاكرة وهو يتفقد الصور.. التقط ورقة مطوية في زاوية الصندوق.. بدت الكتابات غير واضحة.. ترهل الورق وضعف النظر حجبتا الحروف.. دقق النظر مركزاً بعمق وهو يزفر بضجر. الكلمات حارقة ومؤلمة.. إنها رسالة أخيه الذي مات قبل ثلاثين عاما.. للرسالة طنين خاص يدق ناقوس الذاكرة.. وكأن الحادثة وقعت بالأمس.. أخبره أخيه: والدتك خرجت من المستشفى وهي بحاجة إلى عناية، وعنايتها تتطلب بعض المال فأبعث ما لديك.. أخذت يداه تضربان على ذلك الصندوق اللعين بتنهدات من الحسرة على ضعف القدرة لحسم الموقف آنذاك.. لقد ماتت والدته بعد الرسالة بشهرين.. لم يستطع مواصلة الغوص في بقية الرسائل والصور التي تدمي القلب.. لملم الأوراق والصور محاولاً إيقاف شريط الذكريات الكئيب. عاد إلى واقعه بعد أن أبحر في صحراء ماضيه.. أخذ يبحث عن القفل بصورة مضطربة.. سقطت صورة مقلوبة على وجهها بجانب الصندوق، نظر إلى عبارات مبهمة مكتوبة خلفها بحاجة إلى تمعن.. تردد في النظر وفكر أن يضعها في الصندوق دون النظر إليها.. قال لنفسه: القلب أخذ نصيبه من الآلام فلن تحرك الصورة ساكناً.. ظلت يده في السماء فترة.. أمسك الصورة ببطء شديد، أخذ يديرها وكأنه يدير جوهرة متفقدا لمعانها.. فجأة زاغت عيناه، وتيبست شفتاه.. الصورة التقطت له في سن الثالثة.. نظر مرة أخرى إلى الصورة.. دقق النظر في الكلمات المكتوبة.. أتت إليه الحروف من بعيد.. تلاشى الضباب المحيط بالكلمات.. أخذت الحروف تتدفق وفجأة سطعت الكلمات أمام ناظريه.. اليوم رحيلك!