تقارب المسافات بين أطراف الكرة الأرضية في هذا العصر بحكم وسائل المواصلات أصبح مشكلة، وأي مشكلة؟! الإنسان أصبح قلقاً، مهموماً. لا تنتهي الدراسة الا وتجده حائرا خاصة إذا لديه إمكانات هل يشرِّق أم يُغرِّب؟! الأولاد بين صائح ونائح، والجيران يشدّون الرحال، والحي يصبح خالياً بعد أن كان يضجّ بالأصوات. ونحن في هذه الأيام على مشارف الإجازة الصيفية، وأفواه الأولاد والبنات مازالت مكمّمة بحكم الامتحانات، لكنها كالبراكين، تخمد ثم تثور. حقيقة لقد أبتلينا بالسفر، ولذلك قال أحد الحكماء: «شيئان لا يعرفهما إلاّ من أُبتلي بهما، هما: السفر الشاسع، والبيت الواسع». العربي من قبل عرف السًّفر، لكن سَفَره عن غاية، وهي غاية من أجلها تتحمل المشاق والمتاعب وذلك في سبيل جلب منفعة، وهذا دفع الشافعي رحمه الله لمدح السفر، لكن هل سفرنا في هذا العصر له غاية؟ أعتقد أن معظمنا يسافر من أجل السفر ليس إلا، وإلاّ فما هذه الحشود التي تضج بها المطارات، وقبلها مكاتب السفر؟ هل غنمنا من وراء رحلاتنا هذه مغنماً؟ أنا أعتقد أن الاجابة بالنفي عند معظم المسافرين، بينما البعض وهم قلة قد يستفيدون من سفرهم. أقول: إن أجدادنا العرب وعلى الرغم من محدودية سفرهم كان لهم موقف من الانتقال بلا فائدة منطلقين في ذلك من الآية الكريمة: «ولو أنا كتبنا عليهم أن اقتلوا أنفسكم أو اخرجوا من دياركم ما فعلوه إلاّ قليل منهم» آية 66 النساء. فقرن جلًّ جلاله الخروج من الوطن بقتل النفس، وفي الأثر: «السفر قطعة من العذاب، يمنع أحدكم نومه وطعامه، فإذا قضى أحدكم مهمته فليعجل إلى أهله». وقيل لبعضهم: «إن السفر قطعة من العذاب، فقال: بل العذاب قطعة من السفر..». ولقد كان )الحجاج بن يوسف الثقفي( يقول: «لولا فرحة الإياب لما عذّبت أعدائي إلاّ بالسفر..» وقيل: السفر، والسقم، والقتال، ثلاثة متقاربة: فالسفر سفينة الأذى، والسقم حريق الجسد، والقتال منبت المنايا. وقيل: السفر اغتنام لولا إنه اغتمام، والغربة دُربة لولا أنها كربة. وقال شمس الدين الصقلي: «حروف )الغربة( مجموعة من أسماء دالة على محصول الغربة: فالغين من: غرور، وغبن، وغلّة وهي حرارة الحزن، وغرَّة وغول وهي كل مهلكة. والراء من: روع، وردى، ورزء. والباء من: بلوى، وبؤس، وبرح وهي الداهية، وبوار وهو الهلاك. والهاء من: هول، وهون، وهم، وهلك. قال )ابن جبير الأندلسي( وقد دخل بغداد ورأى شجرة باسقة، فقطع منها غصنا، فوجده قد ذبل بين يديه بعد انبتاره عن أصله، فقال شعراً: لا تغترب عن وطن واذكر تصاريف النوى أما ترى الغصن إذا ما فارق الأصل ذوى!! إن المسافر مهما كان يعد غريبا، اذ ترك مكانه المألوف، ويعيش في مكان غير معروف، ولذلك سئل أحد الحكماء: ما السرور؟ فقال: «الكفاية في الأوطان، والجلوس مع الإخوان..». إن ما قيل في )قدح( السفر لكثير، خاصة خارج الوطن، حوت ذلك كتب الرحلات وآدابها، ومع ذلك فإن هناك من )مدح( السفر، ولكن قرنه بالفائدة ، قال تعالى: )وآخرون يضربون في الأرض يبتغون من فضل الله» المزمل 20. أنا هنا لا ادعوكم أيها القراء الى الاحجام عن السفر، لكنني أدعوكم إلى التعقل في السفر، وربطه بغاية وهدف. إلى سمو وزير الداخلية وفقه الله: أدرك حرصكم الشديد على أبناء هذا البلد، ولأن الإجازة لم تعد في عمومها مفرحة نظراً لكثرة الحوادث داخل البلاد، فإنني أدعوكم لاستنفار رجال المرور والدوريات كما يُستنفر الجيش في أي بلد يدخل الحرب. نحن يا سمو الأمير نعيش في أمان الله، لكن السيارات حربنا. كم شاب قضى نحبه!! وكم عائلة فقدت عائلها!! وكم بيوت أُغلقت أبوابها!! إن السيارات قد اكلت شيبنا وشبابنا، وكل ذلك بقدر من الله، ولكن لماذا لا نحاول الحدّ من ظاهرة التهور في السياقة. يا سمو الأمير: في بلدتي التي قضيت فيها إجازتي العام الفائت توفي على الخط المجاور لها أكثر من اثني عشر راكبا خلال اسبوع واحد مع العلم أن المسافة لا تتعدى بين المركز المجاور لها والشرطة في المكان الآخر الثمانية كيلومترات. إن الخطوط خاصة تلك التي تصل بين القرى والبلدات والمراكز تحتاج يا سمو الأمير إلى رقابة شديدة من قبل رجال المرور، وكذلك رجال الدوريات، وهذا في الواقع يحتاج لمتابعة من المسؤولين تحت توجيهات سموكم الكريم، وهذا ما نعهده فيكم، أعانكم الله.