في يوم الخميس 27/1/1420ه توفي سماحة الشيخ عبدالعزيز بن عبدالله بن باز عليه رحمة الله لتنتهي حياة طويلة من حياة العلماء العاملين الذين أمضوا حياتهم في خدمة الإسلام والمسلمين، مات وخلف وراءه سيرة عاطرة يحفظها التاريخ لتبقى مدرسة لكل من بعده، وهكذا كان السلف الصالح: تستقى من سيرهم الدروس والعبر، وتبقى حياتهم مطرزة بالهدي النبوي والسير خلف نهج السلف الصالح، لأنهم لم يبتدعوا شيئاً جديدا وإنما ساروا على نهج النبوة وطريق الصحابة ومن جاء بعدهم. عندما يموت العالم يحزن عليه الكثير ويبدون حزنهم في تقاسيم وجوههم، ومنهم من لا يستطيع الصبر على المصيبة فيصدر منه حينها ما يندم عليه فيما بعد، وكما قيل: يفعل العاقل عند المصيبة ما يفعله المجنون في شهر، والحياة ميدان للاختبار والتمييز بين الناس، وما اعطي المؤمن عطاء أبلغ من الصبر، كتب عن الشيخ رحمه الله بعد وفاته الكثير، ويغلب على الكثير منها انها عواطف دعا إليها فقد الناس للشيخ وما ندري لعل الأيام القادمة تحمل في تضاعيفها الكثير أيضاً، ومهما كتب عن الشيخ فإن حياته حافلة لكل ما كتب وما سيكتب مادام الدافع للكاتب النفع والإفادة، ومهما يكن فإنه لا يصح في الأخير إلا الصحيح، فأما الزبد فيذهب جفاء وأما ما ينفع الناس فيمكث في الأرض. من الصعب جداً ان تكفي هذه السطور الحديث عن كل ما كتب عن الشيخ من مؤلفات، إذ تتبعها يطول على مثل هذا المقام، ولكن رأيت اختيار كتاب واحد للحديث عنه وإنما اخترت الحديث عنه دون غيره لعدة أسباب منها: 1 - ان كل من كتب عن الشيخ فلابد ان ينقل من هذا الكتاب، سواء سلك مسلك المنصفين من أهل التأليف الذين يحيلون الكلام إلى قائله الأول: فأحال حال نقله منه إليه، أو سلك المسلك الآخر فنقل ما يريد دون أدنى إشارة إلى ذلك في صورة تقلق ذوي الهمم العالية ان يرى مثل هذا العمل، وعلى كل فكلتا الصورتين وجدتا في الكتب التي ألفت عن الشيخ رحمه الله . 2 ومنها: ان هذا الكتاب تخصص في جزء من حياة الشيخ وهو مكثه في الدلم فجمع كل ما يمكنه جمعه، ومما لاشك فيه انه كل ما قلت الفترة الزمنية التي يكتب عنها الشيخ كل ما استطاع الابداع والتحقيق، بخلاف من يريد ان يكتب عن حياة الشيخ من ولادته إلى وفاته فلاشك سيغيب عنه أشياء وتراه يغرق في جانب ويهمل جوانب أولى بالحديث، والناظر إلى ما كتب عن الشيخ يرى هذا الأمر واضحاً. 3 ومن الأسباب التي جعلتني اخص هذا الكتاب بحديث وهو أهمها انه حاز من السبق ما لم يصل إليه مؤلف آخر حسب علمي، وما اظن مؤلفاً سينال ما ناله هذا الكتاب: وهو ان سماحة الشيخ ابن باز المترجم له قرأ هذا الكتاب في طبعته الأولى، بل وزاد عليه بإجازة للكتاب في رسالة كتبها إلى مؤلفه، طرز المؤلف بها طبعته الكتاب الثانية، فأنى لمؤلف ان يجيز الشيخ كتابه الآن وقد توفي، ولو لم يكن من ميزات هذا الكتاب إلا هذه الخصلة لكفت. 4 ومنها أيضاً ان هذا الكتاب بين كتب التراجم لسماحته هو من أقل الكتب استطراد في أمور لا علاقة لها بالمقصود من الكتاب، فقد وجدنا بين تلك الكتب من جعل كتابه ميداناً للتجريح والتعديل بل لم يخل بعض الكتب من همز ولمز، بل لم تخل بعض الكتب من ذم الشيخ رحمه الله مع ان المؤلف ألف كتابه في ترجمة الشيخ. جاء هذا الكتاب ليغطي فترة من أغنى فترات الشيخ علماً وتوجيهاً ونصحاً، لأنه كان متفرغاً فيها للقضاء والتدريس والنصح والتوجيه، وقد يكون الشيخ خلال مكثه في الدلم أقرب إلى قلوب تلك البلدة الصغيرة، لأنه كان خلال تلك الفترة الشيخ والوالد والمعلم والآمر والناهي، ولقد اجتهد مؤلف الكتاب في جمع ما أمكنه جمعه من معلومات عن الشيخ أثناء وجوده في الدلم، متلقياً ذلك من مصادره سواء كانت كتابة أو مشافهة من معاصري ذلك الوقت، وسأستعرض هنا ما احتواه هذا الكتاب: فأول ما يقابل الناظر في الكتاب هو خطاب سماحة الشيخ المترجم له رحمه الله للمؤلف بعد اطلاعه على الطبعة الأولى للكتاب جاء في هذا التقديم: أما بعد فقد اطلعت على ما كتبتم حول جوانب من حياتي حين كنت قاضياً في منطقة الخرج مقيماً في عاصمتها ذلك الوقت الدلم، فألفيت ما كتبتموه لا مانع من نشره رجاء ان ينفع الله به من شاء من عباده.. أ.ه، وليلاحظ القارئ قوله رحمه الله : جوانب من حياتي، فما كتبه المؤلف لا يمثل شيئاً مما عاشه أهل الدلم في عصره عليه رحمة الله، وهذا ما يدعوني مقدما إلى الدعوة إلى البحث أكثر في تلك الجوانب عسانا نجد منها ما لم نجده. في بداية الكتاب تحدث المؤلف عن الدلم في نبذة مختصرة، هي كالتمهيد للكتاب، ثم تحدث بعد ذلك عن اسم الشيخ ودراسته وذلك باختصار أيضاً لأن المقصود من الكتاب: الحديث عن حياة الشيخ في الدلم فلا ريب ان يختصر المؤلف عند حديثه عن تلك الأمور التي لا علاقة لها بمقصده، ثم تكلم باختصار أيضاً عن الوظائف التي شغلها رحمة الله عليه خلال حياته، بعد ذلك بدأ المؤلف في الحديث عن الشيخ فترة مقامه في الدلم فتكلم عن بداية تعيينه في القضاء وتاريخ ذلك، ثم عن طريقته وبعض الروايات للوقائع التي وقعت وهو في عمله ذلك، وتكلم عن طريقته في القضاء والحكم بين المتنازعين، كما تحدث أيضاً عن كتابه الذين كانوا يكتبون بين يديه. تحدث المؤلف بعد ذلك عن الشيخ والتعليم وأطال في هذا لأن الشيخ أولى جانب التعليم اهتماماً كبيراً ولم يقصر ذلك على الحلقات التي كان يعقدها في المسجد بل اهتم اهتماماً كبيراً بالتعليم النظامي فقد كان إنشاء أول مدرسة ابتدائية بطلب منه، وتولى هو الإشراف عليها والاهتمام بها، ومن اراد معرفة تفاصيل عن هذا الجانب من اهتمامه فلينظر هذا الكتاب، تطرق المؤلف بعد ذلك إلى الحديث عن حياة الشيخ اليومية التي كان يسير عليها، أخذ ذلك من بعض تلاميذ الشيخ، ثم بعد ذلك تحدث المؤلف عن تلاميذ الشيخ في تلك الفترة التي عاشها في الدلم وتكلم بنبذ مختصرة عن بعض المعروفين منهم، ثم أطال المؤلف الحديث عن اهتمامات الشيخ رحمه الله العلمية ومؤلفاته التي ألفها أيام عمله قاضياً، وأورد نماذج من بعض الرسائل التي كتبها في ذلك الوقت وألقيت على الناس في المساجد، واشتمل هذا المبحث على الحديث عن فتاوى الشيخ في الطلاق وتعليقاته على الردود التي كتبها بعض طلابه على المخالفين، وهي في الحقيقة لمسة من الشيخ تجاه تلاميذه وتشجيعهم على التأليف والجرأة خصوصاً إذا كان لهذه الكتابة داع وحاجة، والشيخ أثناء مكثه في الدلم لم ينقطع عن العالم بل مازال في تواصل مع العلماء سواء في داخل البلاد أو خارجها، وأتى بذلك الحوار الذي دار بين العالم الهندي مسعود الندوي وبين الشيخ رحمهما الله . ثم عاد المؤلف لذكر صور من أعمال الشيخ التي كانت تصب في نفع الناس وقضاء مصالحهم، وهذا باب واسع عند الشيخ ولو استفصل فيه المؤلف لطال الكتاب ولكنه اقتصر على بعضها التي لها علاقة بالفترة الزمنية التي يحكيها الكتاب. بعد حديثه عن أعمال الشيخ بدأ في ذكر مواقف مرت على الشيخ مضت مع الزمن ولكنها بقيت راسخة في أذهان محبيه، يتذكرونها دائماً، وهي شاملة لكل مجالات حياة الشيخ في القضاء أو الدرس أو مع أهل البلد أو حتى مع الغريب، وكلها نابعة من حسن اخلاق الشيخ وطيب معشره وتنزيله الناس منازلهم، تبقى مثل هذه المواقف دليلاً راسخاً ومجالاً للاقتداء من كل الأجيال القادمة. لكل بداية نهاية وكما عاش الدلم خمس عشرة سنة في عصر هو من أجمل عصوره السابقة كان لابد ان ينتهي ذلك العصر بذهاب الشيخ وانتقاله عن الدلم ورجوعه إلى الرياض ويا لها تلك الساعة التي عاشها اهل الدلم وهم يودعون الشيخ مغادراً البلدة التي انتفعت به في كل مجال، لقد صور المؤلف تلك الصورة حينما تحدث عنها في هذا الكتاب، وجاء بتلك القصائد التي نبعت من أعماق قلوب شعراء الدلم من طلاب ومحبين، وتنتهي فصول ذلك العصر الذي عاشه الشيخ في هذه البلدة، ولكنه لم يغب عن باله رحمة الله عليه ذلك البلد فمازال في اتصال به وبأهله وسؤال عنهم، وقد قام بزيارات له بعد انتقاله عنه، وما كان ذلك إلا للمكانة التي كانت لهذا البلد في قلبه، رحمه الله رحمة واسعة. ثم الآن وقد توفي الشيخ كان لابد للمؤلف من حديث عن وفاته وذكر لبعض مشاعر أهل الدلم بعد الوفاة، من قصائد وكتابات، ليختم المؤلف كتابه بها، وينهي الحديث عن تلك الأيام الجميلة التي تنعم بها أهل الدلم. ثم جعل المؤلف في آخر الكتاب ملحقاً لبعض الوثائق التي حصل على صور منها وهي كتابات للشيخ ومراسلات أثناء عمله قاضياً في ذلك الوقت. هذا عرض موجز للكتاب، وليس الخبر كالمعاينة فما أظن شخصاً يريد التعرف على سيرة الشيخ عبدالعزيز بن باز ثم لا يكون عنده هذا الكتاب، بقي أن اشير هنا إلى ان أي عمل فهو في حاجة إلى الزيادة والمراجعة وعدم الوقوف عند حد يقول صاحبه هنا ينتهي المطاف، وأقول أيضاً ان مما ألحظه على بعض من كتبوا عن سماحة الشيخ رحمه الله انهم أغفلوا الحديث عن بعض الجوانب التي هي في نظري مهمة ومنها على سبيل المثال: الحديث عن الكتب التي كان سماحته يشرحها للطلاب في دروسه، لأن الفائدة من معرفتها كبيرة فقراءة الشيخ لكتاب معين هو مدعاة للنظر فيه فإن من يخالط الشيخ يعلم انه هو الذي يختار الكتاب المقروء، إلا نادراً، ثم هناك أيضاً فوائد أخرى من معرفة الكتب المقروءة على الشيخ فبها يعرف البعد العلمي الذي يعيشه الشيخ مع طلابه، كما انه قد يستفاد من معرفة الكتب التي قرئت على الشيخ التأكد من وجود كتاب أو ما أشبه ذلك، وسأكتفي هنا بمثال واحد له علاقة بحياة الشيخ في الدلم، ولعل أخي مؤلف الكتاب لم ينتبه له: استشهد الدكتور: الوليد الفريان على اثبات وجود كتاب بكونه قرئ على سماحة الشيخ ابن باز في الدلم، يقول الفريان في مقدمة تحقيقه لكتاب: فتح المجيد حين تكلم عن شروح: كتاب التوحيد ذكر من بينها الحاشية للشيخ: سليمان حفيد الشيخ محمد رحمهما الله ، ثم قال الفريان واطلع عليها وفي الهامش قال: وحدثني شيخنا الشيخ عبدالعزيز بن باز حفظه الله انها قرئت عليه منذ وقت بعيد في بلد الدلم أ.ه «انظر 1/24»، فأقول هنا لفتتان: الأولى ان هذه الفائدة من بدائع الدكتور الوليد سدده الله وهي مما يشكر عليها، أما الثانية: انه يتضح بهذا المثال كيف استدل الفريان على وجود الكتاب بكونه قرأ على الشيخ في الدلم. فلا ينبغي لمن يكتب عن عالم ما ان يستقل شيئاً مما له علاقة بحياة ذلك العالم، فلعل ما يظنه لا فائدة فيه هو عند غيره كبير الفائدة. خرج كتاب اخينا الأستاذ: عبدالعزيز البراك في طبعته الثانية يزيد بأضعاف على حجم الطبعة الأولى، وكنت أتمنى لو ان اخي عبدالعزيز ما يز بين كلام الطبعة الأولى وكلام الطبعة الثانية كأن يجعل كلام الطبعة الأولى بين قوسين أو ما أشبه ذلك، وقد فعلت ذلك في نسختين من الكتاب فوجدته سهلاً، لكن ما سبب قولي هذا؟ السبب ان الشيخ رحمة الله عليه إنما قدم للطبعة الأولى ونحن نريد ان نعرف الكلام الذي اطلع عليه سماحته من الكلام الجديد، وليس هذا طعنا فيما جد في الطبعة الأولى، ولكني اظن ان فعل مثل هذا مما يزيد من دقة المؤلف وحرصه على مصلحة الكتاب.. وفق الله المؤلف لكل خير وبارك فيه ونفع به، ورحم الشيخ عبدالعزيز بن باز ورفع درجته.