قال أبو الطيب في قصيدة يمدح بها محمد بن عبدالله القاضي الأنطاكي: أفاضل الناس أغراض لذا الزمن يخلو من الهم أخلاهم من الفطن وإنما نحن في جيل سواسية شر على الحر من سقم على بدن حولي بكل مكان منهم خلق تخطي إذا جئت في استفهامها بمن يقول العكبري في شرح البيت الأول: أغراض: جمع غرض، وهو الهدف الذي يرمى به. والفطن: جمع فطنة، وهي العقل والذكاء. والمعنى: يقول: الفضلاء من الناس للزمان، كالأغراض يرميهم بنوائبه وصروفه، ويقصدهم بالمحن، فلا يزالون محزونين، وإنما يخلو من الحزن والفكر من كان خالياً من الفطنة والبصيرة. وهذا من أحسن الكلام، وهو من كلام الحكيم. قال الحكيم: على قدر الهمم تكون الهموم، وذلك أن العاقل يفكر في عواقب الأمور، فلايزال مهموماً، وأما الجاهل فلايفكر في شيء من هذا. ويقول العكبري عن البيت الثاني: الجيل: ضرب من الناس «ولقد أضل منكم جيلا». وسواسية: متساوون في الشر دون الخير. الواحد: سواء، من غير لفظه. والسقم: المرض. والمعنى: يقول: نحن في قرن من الناس قد تساووا في الشر دون الخير، فما فيهم أحد يركن إليه. ويقول العكبري عن البيت الثالث: يروى خلق )بالخاء وبالحاء(، فبالحاء: الجماعة من الناس جمع حلقة، )وبالخاء(، جمع خلقة، وهي الصورة، والاستفهام عمن يعقل بمن، وعما لايعقل بما، تقول للجماعة من الناس: من أنتم؟، وتقول لما لايعقل: ماهذه القطعة؟. والمعنى: يقول: حولي من هؤلاء الناس جماعة كالبهائم، فإذا قلت من أنتم؟ أخطأت في القول لأنك خاطبت مالا يعقل بما يخاطب به من يعقل، بل إذا أردت أن تقول لهم: من أنتم؟ فقل: ما أنتم؟ وفيه نظر إلى قوله تعالى: «إن هم إلا كالأنعام بل هم أضل سبيلا». لقد ربط شاعرنا أبو الطيب في أبياته الثلاثة السابقة بين العلاقة الوثيقة بين الإنسان والزمن، فالزمن له مفعوله القاسي والمؤثر على الإنسان المفكر في الأمور والأحوال التي تدور من حوله. ويلاقي الإنسان صاحب الطموحات العالية الكبيرة، المصاعب والويلات والشدائد والقهر من الزمن. والزمن هنا بغض النظر عما يحدثه بمروره في بدن الإنسان من تغيرات وتبدلات هو في الحقيقة مايراه الإنسان العاقل من الناس من حوله، فإذا كان الناس كما قال الشاعر دون عقول وفهوم، ودون فطن ولا إدراك ومعرفة بما يدور حولهم، وكأنهم أصنام لا أرواح ولا عقول فيها، فأي زمن هذا الذي يكون أناسه مثل هؤلاء؟ إنه زمن الخسة والنذالة والقهر والأسى، ومن هنا يمكن القول بأن زمان شاعرنا الذي أشار إليه هو الإنسان في ذلك الزمن فأي زمن من الأزمان يمكن أن يصير زمن قيم ومثل وأخلاق عالية أو بالعكس من ذلك، وكل هذا يعتمد على نوعية بشر هذا الزمان. وقال المتنبي في قصيدة يهجو بها كافوراً: ما كنت أحسبني أبقى إلى زمن يسيء بي فيه كلب وهو محمود يقول العكبري في شرح هذا البيت: المعنى: يقول : ما كنت أظن أن يؤخرني الأجل إلى زمان يسيء إلي فيه شر الخليقة وأنا أحتاج أن أحمده وأمدحه، ولايمكنني أن أظهر الشكوى. وقال الشاعر في قصيدة يمدح بها فاتكاً: إنا لفي زمن ترك القبيح به من أكثر الناس إحسان وإجمال يقول العكبري عن هذا البيت: المعنى: يقول: إنا في زمان من فيه إن لم يعاملنا بالقبيح، فقد أحسن إلينا، وأجمل، لكثرة من يعامل فيه بالقبيح. والمعنى: أنه نبه على انفراد فاتك في دهره، وانفراده بالكرم عن أبناء عصره، وهذا من إدبار الزمان، وزهد أهله في الرياسة والإحسان، فقال: إنا لفي زمن إمساك أهله عن قبح الفعل، وتأخرهم عن مذموم السعي فضل يؤثر، وإحسان يحمد ويشكر، فكيف اتفق فيه فاتك، وهو رئيس المحسنين، وزعيم الكرماء المنعمين. يقول أبو الطيب في بيته الأول موجهاً كلامه لذاته: ما كنت أتوقع أن يمتد بي العمر ويتركني الزمن ويبقي علي إلى هذا الوقت الرديء الذي أهان فيه من قبل أراذل الناس وخساسهم. أما في البيت الآخر فشاعرنا المتنبي يقول: إن زمننا هذا زمن اختلطت فيه المعايير والمقاييس والقيم، فمن يترك فعل القبيح من الناس فيه فقد أحسن وأجمل، لأن جل أناس هذا الزمن متعودون على اللئم والخسة وفعل القبيح. ومما سبق نتبين أن شاعرنا قد ربط ربطاً وثيقاً بين الإنسان وزمنه وأن أي وصف أو نعت يطلق على الزمان، إنما هو ناتج عن إنسان هذا أو ذاك الزمان. وقال أبو الطيب في قصيدة قالها وقد بلغه أن قوماً نعوه في مجلس سيف الدولة: بم؟ التعلل لا أهل ولا وطن ولا نديم، ولا كأس، ولا سكن أريد من زمني ذا أن يبلغني ا ليس يبلغه في نفسه الزمن لا تلق دهرك إلا غير مكترث مادام يصحب فيه روحك البدن فما يدوم سرور ماسررت به ولايرد عليك الفائت الحزن يقول العكبري في شرح البيت الأول: الوطن: مايتوطنه الإنسان من مسكن. والنديم: الصاحب. وأكثر مايكون في الخمر. والسكن: الصاحب، وكل ماسكنت إليه. والسكن )بسكون الكاف( أهل الدار. والمعنى: يقول: عند شكواه الزمان بم أتعلل؟ وأنا عن أهلي بعيد، وعن وطني، فلم يبق لي ما أعلل به نفسي. فبأي شيء أتعلل. وكتب رجل إلى امرأته من مصر وهي ببغداد مستشهداً بهذا البيت، فكتبت إليه: لست كما قلت، وإنما أنت كما قال صاحب هذه القصيدة. سهرت بعد رحيلي وحشة لكم ثم استمر مريري وارعوى الوسن ويقول العكبري عن البيت الثاني: المعنى: قال أبو الفتح: ذهب إلى أن الزمان كالذي يعقل، فيختار أن يكون كله ربيعاً، لأنه أطيب الزمان، يظهر فيه من الروض والزهر مالا يظهر في غيره من الأزمنة. وقال الواحدي: أطلب من الزمان استقامة الأحوال، والزمان لايبلغ هذا من نفسه، لأنه أربعة فصول، كل فصل ضد الآخر. قال: ويجوز أن يكون أراد أن همته أعلى من أن يكون في وسع الزمان البلوغ إليها، وهو يتمنى على الزمان أن يبلغه همته، ويجوز أنه يطالب الزمان أن يخليه من الأضداد. والزمان ليس يبلغ هذا من نفسه، فإن الليل والنهار ضدان، ويجوز أن يريد: أني أقترح على الزمان الاستبقاء. وهو لم ينل في نفسه البقاء. ويقول العكبري عن البيت الثالث: تقول: ما أكترث له، أي ما أبالي. والمعنى: يقول: مادمت حياً، فلا تبالي بالزمان وصروفه ونوائبه، فإنها تزول، وليست دائمة، والذي إذا فات فلاعوض منه هو الروح. وهذا من كلام الحكيم: أيام الحياة لاخوف فيها، كما أن أيام المصائب لابقاء فيها. ويقول العكبري عن البيت الرابع: المعنى: يقول: السرور، وهو الفرح لايدوم، ولابد له من انقضاء، وإذا حزنت على فائت تعبت، ولايرده عليك حزنك، وهو من قول الحكيم: الأيام لاتديم الفرح ولا الترح، والأسف على الماضي يضيع العقل لاغير. لقد ربط الشاعر في أبياته الأربعة السابقة بين الزمان والحالة النفسية للإنسان، وكيف أن كلاً من الحالتين: الزمان والحالة النفسية يؤثر كل منهما في الأخرى. فالزمن قد يصبح قصيراً وغير محسوس به، وقد يصير بالعكس من ذلك، وهذا يعود إلى الحالة النفسية للإنسان. فالشاعر يقول: كيف أتعلل وأرتاح وأسر، وأنا متعب ومتألم، وبرم وقلق في داخل ذاتي، لأنني بعيد عن الأهل والسكن والوطن، ولاعندي نديم أفضي إليه بهمومي ليشاركني بها، أو أن يزيلها عني، ولهذا السبب أفكر بالزمن وأحس به وبوطئته على نفسي، وأريد منه أن يوصلني لما أرغب به، ولكن حتى هذا الزمن أصبح ثقيلاً قاتلاً متغيراً لايثبت على حال من الأحوال، فمن كانت هذه هي حالته فلا يستحق أن يكترث به )وكما سبق وأن أشرنا فإن الزمن هو مايقوم به الإنسان من حوادث وأفعال إذا أغفلنا الزمن من منظوره الفيزيائي الطبيعي، وعلى هذا الأساس فإنه يمكن القول بأن الشاعر كان يشير بالزمن إلى بني البشر في زمنه(. يقول حلمي )1406ه1986م( في تعليق له على بيتي شاعرنا الثالث والرابع من الأبيات الأربعة السابقة: إن المتنبي يستخف بالزمن ويقول له: إنك تستطيع أن تفعل بجسمي ماتشاء من الوهن وأن تهد أركانه بالشيب، ولكن لاسبيل لك إلى نفسي، فإنها لاينالها سلطانك، وإنها ستبقى فتية قوية في هذا البدن الضعيف البالي. ويقول الدسوقي )1408ه1988م( معلقاً على الأبيات الأربعة السابقة: من البيت الأول تحس هذا الاحتشاد والاقتصاد، وكأن المتكلم حكيم متقطع الأنفاس، يرسل الحكمة في أقل لفظ، ويعترف في أوجز تركيب. وتأمل هذا الاستفهام الباتر: بم التعلل؟ إن فيه طاقة من الحزن تتأملها في لحظة صمت تجيء بعده، تعادل الأحزان التي تفجرها بعد ذلك هذه الاعترافات المباشرة المتتابعة في سرعة خاطفة: لا أهل، ولا وطن، ولانديم، ولا كأس، ولا سكن إن تياراً من الحزن العميق يتسلل إلى نفوسنا من خلال هذا السياق الفني الموحي المؤثر. وينتقل الشاعر من البيت الأول الذي يصور فيه مأساته الخاصة في مصر وضياعه الشخصي بعد أن فقد الأهل والوطن والصاحب والسكن إلى البيت الثاني الذي يصور فيه طبيعة الزمان المتناقضة التي لا تستقر على حال. فكيف يريد من هذا الزمن القاصر أن يبلغه آماله. ويزداد الشاعر حكمة ورضا في البيت الثالث عندما يطلب إلى نفسه ألا يلقى هذا الدهر إلا غير مكترث، فالحياة أقوى من الموت، ومادام الإنسان حياً، فلايهتم بشيء بعد ذلك، فلا يدوم السرور ولايدوم الحزن. ولا يعيد إلينا الحزن ما فات من حسراتنا. ويختتم الدسوقي تعليقه على أبيات شاعرنا الأربعة السابقة قائلاً: هنا نحس أن أبا الطيب يتحدث إلينا من وراء الزمن، بعد أن حول تجربته الخاصة إلى تجربة كونية عميقة، ولخصها في كلمات حكيمة تناقلها الأجيال وترددها، وتشعر بالراحة بعد ترديدها لا تلق دهرك إلا غير مكترث؛ فما يدوم سرور ما سررت به؛ ولايرد عليك الفائت الحزن. وقال المتنبي في قصيدة يعزي بها عضد الدولة وقد ماتت عمته: تبخل أيدينا بأرواحنا على زمان هي من كسبه فهذه الأرواح من جوه وهذه الأجسام من تربه لو فكر العاشق في منتهى حسن الذي يسبه لم يسبه لم ير قرن الشمس في شرقه فشكت الأنفس في غربه يقول العكبري في شرح البيت الأول: المعنى: يقول: تبخل أيدينا بأرواحنا وتمسك بها بخلاً بها على الزمان، والأرواح مما أكسبه الزمان، وهذا الكلام من كلام الحكيم، قال: إذا كان تناشؤ الأرواح من كرور الأيام فما لنا نعاف رجوعها إلى أماكنها. ويقول العكبري عن البيت الثاني: المعنى: يريد أن الإنسان مركب من هذين، من جوهر لطيف، وجوهر كثيف، فالأرواح من الجو، والأجسام من الأرض، فجعل اللطيف من الهواء، والكثيف من التراب. وهذا من قول الحكيم حيث يقول: اللطائف سماوية، والكثائف أرضية، وكل عنصر عائد إلى عنصره. ويقول العكبري عن البيت الثالث: المعنى: يريد أن العاشق للشيء المستهام به، لو تفكر في منتهى حسن المعشوق، وأنه يصير إلى زوال لم يعشقه، ولم يملك العشق قلبه، وهذا يطرد في كل شيء، لو فكر الحريص الذي يعدو ويقتل في نفسه ويعادي على جمع المال، إن آخره إلى زوال، أو إنه يموت عنه لما حرص على جمعه. وهذا البيت من أحسن الكلام الذي يعجز عن مثله المجيدون، وهو من قول الحكيم حيث يقول: النظر في عواقب الأشياء يزيد في حقائقها، والعشق عمى الحس عن دراك رؤية المعشوق. ويقول العكبري عن البيت الرابع: قرن الشمس: أول مايبدو منها. والمعنى: يريد أنه لابد من الفناء، وهذا مثل. يريد إن الشمس من رآها طالعة عرفها غاربة، كذلك الحوادث، منتهاها إلى الزوال، لأن الحدوث سبب الزوال. لقد بين أبو الطيب في أبياته الثلاثة الأولى من أبياته الأربعة السابقة إن الإنسان يخاف ويبخل بروحه وحياته على الزمان والتي هي من كسبه فالروح من الجو والبدن من الأرض، والإنسان مهما طال به الزمن فمصيره إلى الهلاك والفناء، فروحه بعد الموت تذهب إلى خالقها وجسمه الذي هو مادة يعود إلى أصله وهو التراب فيتحلل. وهنا فقد ربط الشاعر بين الزمان والإنسان فتكرار السنين يعمل عمله بجسم الإنسان حتى يوصله للهلاك والاضمحلال والتفكك. إضافة لذلك فقد أشار شاعرنا الفذ إلى ظاهرة يسميها العلم الحديث بظاهرة التحلل ولو بصورة غير مباشرة فالكائن الحي بعد موته تعمل في جسده الكائنات الحية الدقيقة فتحلله وتعيده إلى مكوناته الأساسية، وهي العناصر المختلفة والتي هي ذاتها موجودة في التراب. وأشار الشاعر في بيته الرابع إلى الزمان كظاهرة فيزيائية طبيعية، فالشمس تشرق ومآلها إلى الغروب ولكنها تكرر فعلها، واتخذ أبو الطيب من هذه الظاهرة الفلكية مثلاً لحوادث الزمن.. يتبع