لقد تطرق أبو الطيب المتنبي الى معدن مهم جداً هو الذهب ويعد الذهب ملك المعادن وسيدها دون منازع، وكان على مر العصور سبباً في ارتكاب الجرائم والقتل، وحتى في نشوب الحروب بين الدول. ويعد الذهب عنصراً كيماوياً ينتسب الى المجموعة الاولى في الجدول الدوري )جدول العناصر(. وهو معدن اصفر ناعم، وأثقل بمرتين تقريباً من الحديد، وهو موصل ممتاز للحرارة والكهرباء. ويوجد الذهب في الطبيعة في حالته العنصرية او الحرة، ولكن في بعض الحالات القليلة جداً يوجد متحداً مع الفضة او بعض المعادن الفلزية )والفلز: هو جميع جواهر الارض من الذهب والفضة والنحاس وأشباهها وما يرمى من خبيثها لسان العرب( الاخرى على هيئة مخاليط او سبائك. ويستخدم الذهب اساساً معياراً للنظم النقدية الدولية ) في العصر الحديث( على هيئة عملات او كتل او سبائك ذهبية. كما يستخدم الذهب ايضاِ في صناعة الحلي والمجوهرات والطلاء، واعمال الزينة. ولا يستخدم الذهب بحالته النقية في صناعة المصوغات، لأن الفلز النقي رخو بدرجة لا يمكن معها استخدامه الا بسبكه مع فلزات اخرى، كالفضة والنحاس والنيكل. وتتدرج قيمة السبيكة طبقاً لنسب ما تحتويه من ذهب، وتقدر هذه النسبة بالقيراط والقراط والقيراط من الوزن معروف، وهو نصف دانق لسان العرب( ويطلق عليها مصلطح العيار فالذهب النقي اربعة وعشرون قيراطاً، وتتدرج هذه النسبة تنازلياً لتصبح مثلاً: 22،18،16،14، وهكذا بنسبة الفلزات الاخرى المسبوكة معه. وهناك استعمالات كثيرة ثانوية للذهب مثل تغليف بعض الاواني لحفظ مركبات كيماوية معينة، وفي طب الاسنان، وصناعة النظارات، وأقلام الحبر، وفي بعض المستحضرات الكيميائية والفوتوغرافية، وبعض الاجهزة العلمية. كما يستعمل تراب الذهب في الاغراض الزخرفية وطلاء الاثاث.قال أبو الطيب المتنبي في قصيدة يمدح بها المغيث بن علي العجلي: وما انا منهم بالعيش فيهم ولكن معدن الذهب الرغام يقول العكبري في شرح هذا البيت: الرغام: التراب. والمعدن: موضع الاقامة. وعدن بالمكان: اقام به وتوطنه، ولهذا قيل معدن بكسر الدال، لان الناس يقيمون فيه. والمعنى: يقول: ما انا منهم )يقصد اهل زمانه(، وان كنت حياً مقيماً فيهم، فأنا فوقهم: كالذهب مقامه في التراب، وهو اشرف منه.لقد اشار شاعرنا في بيته هذا الى مكان تواجد الذهب. والتراب هنا ليس بالتراب العادي الذي نراه على سطح الارض، لانه من المعروف ان الذهب يوجد على هيئة عروق تقع )توجد( في الصخور النارية والرسوبية، وعندما تتفتت هذه الصخور بعوامل التعرية فإنها تنقل بعيداً ومعها الذهب على هيئة رواسب رملية في الوديان والانهار بما يسمى رواسب المكيث. وقال المتنبي في قصيدة يرثي بها اخت سيف الدولة: قد كان قاسمك الشخصين دهرهما وعاش دُرُّهما المفديُّ بالذهب يقول العكبري عن هذا البيت: المعنى: يريد بالشخصين: اختيه الكبرى وا لصغرى، لأن الموت اخذ الصغرى وابقى الكبرى، فكانت الكبرى كدر فدي بالذهب، فجعل الكبرى كالدر لنفاسته، وجعل الصغرى ذهباً. لقد بين أبو الطيب في بيته هذا قيمة الذهب بالنسبة للمجوهرات الاخرى وقال الشاعر في قصيدة يمدح بها كافوراً: 1 سبائك كافور وعقيانُهُ الذي بصم القنا لا بالاصابع نقده يقول العكبري في شرح هذا البيت: السبائك: جمع سبيكة من ذهب وفضة، وهو ما يذاب منهما، والعقيان: الذهب. والمعنى: يقول: غلمانه )غلمان كافور( الذين اختارهم وادخرهم للحرب، سماهم باسم الذهب والفضة، لانهم مثل الذخائر لغيره والاموال، لانه بهم يصل الى مطالبه، كما يصل غيره الى مطالبه بالاموال، ولكن نقد هذه السبائك لا يكون بالانامل، انما يكون بالرماح، فيتبين من يصلح للحرب ممن لا يصلح لها. وقال المتنبي في قصيدة قالها لبدر بن عمار: 2 إني انا الذهب المعروف مخبره يزيد في السبك للدينار دينارا يقول العكبري عن هذا البيت: المعنى: يقول: انا كالذهب الذي يخبر الناس جوهره بالسبك، فتزيد قيمته على ما كانت قبل. لقد اثار ابو الطيب ي بيته الاول من بيته السابقين الى السبائك، والسبيكة هي خليط من معدنين او اكثر لتكوين مادة جديدة تتميز بخواص معينة كالصلابة مثلاً. وشبه غلمان سيف الدولة بالذهب والفضة لنفاستهم بالنسبة لكافور..اما في بيته الآخر فشبه نفسه بالذهب الذي يزيد جودة عند سبكه وتخليصه من الشوائب، مما يزيد في قيمته. وقال أبو الطيب في قصيدة يمدح بها عبدالواحد بن العباس بن ابي الاصبع: فكأنها والدمع يقطر فوقها ذهب بسمطي لؤلؤ قد رُصِّعا يقول العكبري في شرح هذا البيت: المعنى: وصف صفرة وجهها )المرأة التي كان يتغزل بها( من الحياء بالذهب، وشبه الدمع عليه باللؤلؤ، فكأن صفرتها والدمع فوقها ذهب مرصع بلؤلؤ. لقد أشار شاعرنا ابو الطيب في بيته هذا الى لون معدن الذهب وصفرته المميزة له دون غيره من المعادن، وترصيعه احياناً باللؤلؤ لاكسابه جمالا اخاذاً، وشبه ترصيع الذهب باللؤلؤ الذي له لون ابيض معين، بوجه محبوبته التي برقعتها الصفرة من الحياء والدموع تقطر فوق خديها بالذهب الاصفر المرصع بالدرر! ورد في لسان العرب لابن منظور: العسجد: الذهب، وقيل: هو اسم جامع للجوهر كله من الدرر والياقوت. قال الشاعر في قصيدة يمدح بها كافوراً: 1 وما رغبتي في عسجد استفيده ولكنها في مفخر استجده يقول العكبري في شرح هذا البيت: العسجد: الذهب. والمعنى: يقول: لا ارغب في مال من جهتهك )يقصد كافوراً(، ولكن في مفخر جديد، لانه كان يطلب منه ولاية. وقال الشاعر في قصيدة يمدح بها سيف الدولة: 2 تركت السرى خلفي لمن قل ماله وأنعلت أفراسي بنعماك عسجدا يقول العكبري في شرح هذا البيت: العسجد: الذهب وا لمعنى: يريد: اني اتخذ لخيلي نعالاً من ذهب من نعماك عليَّ، وتركت السرى لغيري من المقترين المقلين، ليسيروا اليك كما سرت اليك، فأنا قد بلغت بك الى كل ما طلبت من الآمال والمال. لقد أشار شاعرنا المتنبي في بيتيه السابقين الى العسجد، وهو هنا الذهب، وبين في بيته الاول ان مطلبه من كافور ليس الذهب، وانما ولاية، وهذا يعني ان من علت همته وعظمت مطالبه لا يكون مطلبه في حياته امتلاك الذهب بل الوصول الى ما يريده ويسعى اليه، اما في بيته الآخر فقد بين انه حصل من سيف الدولة على ما يريده من مال وجاه. وقال ابو الطيب في قصيدة يمدح بها الحسين بن اسحاق التنوخي: اذا ما ضربت القرن ثم اجزتني فكل ذهباً لي مرة منه بالكَلْم يقول العكبري في شرح هذا البيت: القرن: كفء الرجل في شجاعته والجائزة: ما يعطاه الشاعر والكلم الجرح والمعنى: يقول اذا اجزتني: أعطيتني جائزة، وهي العطاء، فكل لي ذهباً في جرح القرن اذا نازلته وجرحته يريد انك واسع الضربة، فأعطني مقدار ما تسع الضربة من الذهب. لقد وصف الشاعر في بيته هذا ممدوحه بالشجاعة والقوة، وكل ما كان يريده منه لان يعطيه كيل ضربة ممدوحه في عدوه ذهباً لعظمها وغورها، ولان الذهب هو اغلى الجواهر. وقال المتنبي في قصيدة يهجو بها الذهبي: سميت بالذهبي اليوم تسميةً مشتقة من ذهاب العقل لا الذهب يقول العكبري: عن هذا البيت: يقول للذهبي: قيل لك: الذهبي، لذهاب عقلك لا لانك منسوب الى الذهب. يقول الشاعر في بيته هذا لمن يهجوه، قيل لك الذهبي، لذهاب عقلك ومنقصتك لا لانك منسوب الى الذهب، لان الذهب عنصر له قيمة مادية ومعنوية عند الناس، وانت لا تساوي شيئاً، وهنا استخدم شاعرنا معدن الذهب في موقع الذم. ورد في لسان العرب لابن منظور: النظير، والنضار والانظر: اسم الذهب والفضة، وقد غلب على الذهب، وهو النضر عن ابن جني وجمعه نضار وانضر والنضرة: السبيكة من الذهب. قال ابو الطيب في قصيدة يمدح بها ابن العميد: 1 ومللت نحر عشارها فأضافني من ينحر البدر النُّضَار لمن قرى يقول العكبري في شرح هذا البيت: العشار: جمع عشراء، وهي الناقة التي اتى لحملها عشرة اشهر والبدر: جمع بدرة، ويقال: البدرة عشرة آلاف والنضار: الذهب والمعنى: يقول: مللت صحبة الاعراب، ونحر الابل ولحومها، فأضافني الممدوح، فجعل قراي بدر الذهب. وقال المتنبي في قصيدة يمدح بها سيف الدولة ويذكر استنفاذه ابا وائل تغلب بن داود من الاسر: 2 فدى نفسه بضمان النضار واعطى صدور القنا الذابل يقول العكبري عن هذا البيت: النضار: الذهب. والقنا الذابل: الرقاق. والمعنى: يقول: ضمن لهم الذهب، ثم اعطاهم الرماح، يشير الى جيش سيف الدولة، فإنه اتاهم سراً، فقتل الخارجي الذي اسر تغلب بن داود ابن عم سيف الدولة واستنقذه بغير مال. وقال الشاعر في قصيدة يمدح بها هارون الاوارجي: 3 وكذا الكريم اذا أقام ببلدة سال النضار بها وقام الماء يقول العكبري عن هذا البيت: النضار: الذهب، والنضير ايضاً وقيل: النضار الخالص من كل شيء. والمعنى: يقول: ان الكريم اذا اقام ببلدة اعطى المال، فمن كثرة اعطائه كأنه ماء سائل، فلما رأى الماء كرمه وقف متحيراً جامداً، وهو معنى حسن. وقال أبو الطيب في قصيدة يمدح بها علي بن منصور الحاجب: 4 هذا الذي أفنى النضار مواهبا وعداه قتلاً والزمان تجاربا يقول العكبري في شرح هذا البيت: المعنى: انه افنى الذهب بالمواهب، والاعداء بالقتل، وجرب الزمان، فحصل له من التجربة ما يعرف به ما يتأتى فيما يستقبل فكأنه افنى الزمان تجربة، لان الزمان لا يحدث عليه شيئاً لم يعرفه. لقد تطرق شاعرنا ابو الطيب المتنبي في ابياته الاربعة السابقة الى النضار، وهو الذهب وبين بانه المعدن النفيس الذي يسعى الناس للحصول عليه وامتلاكه وانه قد يتخذ وسيلة للإغراء والحيلة لتحقيق اهداف معينة او لاظهار سلوك معين كالكرم ونحوه يتبع