لقد تطرق شاعرنا أبو الطيب بصورة مباشرة الى النار واشتعالها والى ما يسمى في عصرنا الحاضر بالطاقة الكامنة، واستخدم أبو الطيب المتنبي تلهب النار وقوة ضوئها وشدة حرارتها وأجيجها ليصف به شدة وقع الحرب على المتحاربين وبدخانها على ارتفاع غبار المعارك. من المعلوم ان النار هي عبارة عن حرارة وضوء ناتجة عن مواد محترقة وقد ثبت علميا ان عملية الاشتعال هي نتيجة الى الاتحاد السريع للأوكسجين مع مواد أخرى وعندما تشتعل المادة فانه ينتج عن ذلك حرارة وضوء ويسمى الاشتعال بالاحتراق. قال أبو الطيب في قصيدة يمدح بها سيف الدولة، وهو يسايره: لهذا اليوم بعد غد أريج ونار في العدوّ لها أجيج وقال شاعرنا المتنبي في قصيدة يذكر بها خروج شبيب ومخالفته كافورا: وما كان الا النار في كل موضع يثير غبارا في مكان دخان وقال الشاعر في قصيدة يمدح بها عضد الدولة: يَلنجُوجيُّ ما رُفعت لضيف به النيران نديُّ الدخان يقول العكبري في شرح البيت الأول: الأريج والأرج: الريح الطيبة. والأجيج: تلهب النار وقد اجت تؤج اجيجا، وأججتها فتأججت وائتجت: افتعلت. والأجوج: المضيء والمعنى: يقول: انه سيكون لهذا اليوم الذي سرت فيه أخبار طيبة تنشر في الناس. وكنى بالنار عن تلهب الحرب. وقال أبو الفتح: يأتي خبر طيب يسر المسلمين ويسوء المشركين. ويقول العكبري عن البيت الثاني: المعنى: يقول: كان )شبيب( نارا على الأعداء. غير ان دخانه الغبار. ويقول العكبري عن البيت الثالث: اليلنجوج: العود الذي يتبخر به ونديّ: تشم منه رائحة الند. والمعنى: يقول: يوقدون النار لأضيافهم بالعود اليلنجوجي ودخانها يشم منه الند. لقد استخدم أبو الطيب في بيته الأول ظاهرة تلهب النار واشتعالها وقوة ضوئها، وشدة حرارتها، ليصف به شدة وقع الحرب على اعداء أميره سيف الدولة في ذلك اليوم المشهود، فيوم الحرب يشبه اشتعال النار وأجيجها، وما ينتج عن هذا الاشتعال والأجيج من هلاك وتدمير، وشبه الشاعر في بيته الثاني )شبيب( بالنار عندما كان يخوض الحروب، وبغبار معاركه بدخان النار. أما في بيته الثالث فأشار الى النيران واشتعالها. يقول العلم: يجب ان تتوفر ثلاثة شروط لتنتج النار وهي: أولا: وجود مادة أو وقود يمكن ان يحترق وهذه المادة او الوقود يجب ان تسخن الى ان تصل الى درجة التهابها، وهذه هي الدرجة التي يتحد بها الأوكسجين وبسرعة مع الوقود، وهو الشرط الثاني. والشرط الثالث هو ان يكون هناك كمية كافية من الأوكسجين والتي مصدرها الجو المحيط. قال أبو الطيب في قصيدة يمدح بها الحسين بن اسحاق التنوخي: وأرهب حتى لو تأمل درعه جرت جزَعاً من غير نار ولا فحم يقول العكبري عن هذا البيت: أرهب: أخاف. والجزع: الخوف والفزع ويقال: فحْم وفحم )بالتحريك والسكون( وقال أبو حاتم: لا يجوز فيه سوى فتح الحاء ويقال: فحيم )أيضا(. والمعنى: يقول: كل من رآه هابه حتى لو انه نظر الى درعه لذابت جزعا من خوفه وجرت جري الماء. لقد ربط ابو الطيب في بيته هذا بين النار والفحم، والفحم ماهو الا عبارة عن وقود قابل للاشتعال وبدون هذا الوقود لا تشتعل النار. ونلاحظ هنا ان شاعرنا استخدم عكس هذه الظاهرة في مدح ممدوحه حيث ان من رأى وشاهد التنوخي ونظر التنوخي الى درعه المصنوع من الحديد لذاب ذلك الدرع من خوف صاحبه منه وجرى درعه جري الماء. يتحد الاوكسجين عادة مع مواد أخرى ببطء وينتج عن ذلك حرارة قليلة، ولا ينتج ضوء وفي هذه الحالة تسمى العملية بالأكسدة، ولا يقال عادة ان هذه العملية هي اشتعال او احتراق وتتم الاكسدة في اية حالة يتحد فيها الاوكسجين مع مواد اخرى سواء كان هذا الاتحاد سريعا او بطيئا. فمثلا عندما يتحد الأوكسجين مع البنزين فان التفاعل يحدث بسرعة وينتج عن ذلك حرارة وضوء وفي هذه الحالة يمكن وصف العملية بأنها اشتعال او احتراق او أكسدة وبالعكس من ذلك فعندما يتحد الاوكسجين مع الحديد مسببا ما يسمى بصدأ الحديد فانه لا يحدث اشتعال او احتراق ولكن يحدث اكسدة فقط. قال المتنبي في قصيدة، وقد كبست انطاكية ،فقتل مهره والحجر أمه: 1 ستبكي شجوَها فرسي ومهري صفائح دمعها ماء الجُسوم قربن النار ثم نشأت فيها كما نشأ العذارى في النعيم يقول العكبري عن البيت الأول: الشجو: الحزن. وشجاه الامر: احزنه والصفائح: جمع صفيحة وهي السيوف. والمعنى: يقول: أقتل أعدائي فتجري سيوفي دماء كأنها الدموع ولما جعل السيوف باكية جعل الدماء دموعا جارية، أي ستبكي سيوفي حزنا عليهما )المهر وأمه( وهذا كله مجاز واستعارة، ولو انها ممن تبكى لبكت عليهما دموعا. ويقول العكبري عن البيت الآخر: روى ابو الفتح : قربن من قربت الابل الماء: اذا دنت منه في صبحها والقرب: سير الليل لورود الغد. يقال: قرب بصباص وذلك ان العرب يسيمون الابل وهم في ذلك يسيرون نحو الماء فاذا بقيت بينهم وبين الماء عشية عجلوا نحوه، فتلك الليلة ليلة القرب. قد أقرب القوم: اذا كانت ابلهم قوارب فهم قاربون ولا يقال مقربون، وهذا الحرف شاذ. وقال الواحدي: يريد ان هذه السيوف وردت النار وهذا قلب للمعهود لأن القرب انما يستعمل في ورود الماء فجعل النار لهذه السيوف كالماء الذي ترده الشاربة والنار تهلك وتفنى وقد انمت هذه السيوف وربتها تربية النعيم العذارى. يريد انها تخلصت من الخبث فطبعت فصارت سيوفا، بعد ان كانت زبرا فذلك انشأها انشاء العذارى في النعيم، ومن روى )قرين( بالياء فإنما اراد قرين بالنار فنشأت بحسن القرى. وقال: جعل السيوف بما تؤديه الى النار من الخبث قارية لها وكان حكم النماء ان يكون للمقرى لا للقارى فعكس موجب القرى بأن جعل النشء للقارى. نعتقد ان شاعر العربية الفذ قد اصاب قلب الحقيقة العلمية في بيته الثاني فقد سبق وان ذكرنا ان الاوكسجين يتحد مع الحديد فيصدأ الحديد وتقل وتضعف نقاوته فليس هناك الا النار ولهيبها وشدة حرارتها لاحراق ذلك الصدأ )حديد واوكسجين( وتنقية الحديد من تلك الشوائب والخبائث..!! اضافة لما تقدم فان جميع المواد المختلفة لا تشتعل بالطريقة نفسها فمثلا عندما يشتعل الفحم الحجري فانه يعطي حرارة مع توهج باهت ولكن بعض المواد الاخرى مثل الفحم والخشب والغاز والمنجنيز والزيت تعطي عندما تشتعل حرارة مع لهب. ويعتمد شكل اللهب بصورة أساسية على درجة الحرارة. ويمكن ايضا ان تشتعل المواد بطرق مختلفة ولكنها مع هذا تحتاج الى نوعية المادة المحترقة وعلى الاوكسجين لتحترق. فمثلا عندما ترمى الخرق البالية المبللة بالزيت او الدهن وتترك فان الاوكسجين من الهواء يمكن ان يتحد ببطء مع الزيت او الدهن في الخرقة من اول الامر بدون حدوث اشتعال، ولكن بسبب ان عملية الاكسدة تحدث بالتدريج ايضا فان الحرارة تتجمع بالتدريج لذا فان الخرقة تشتعل ويسمى هذا النوع من الاحتراق بالاحتراق الفجائي او العضوي. قال الشاعر في قصيدة يمدح بها محمد بن عبيد الله العلوي: تنقدح النار من مضاريبها وصبُّ ماء الرّقاب يخمدها يقول العكبري في شرح هذا البيت: قال أبو الفتح: اذا صار السيف الى الأرض قدح النار لشدة الضرب واذا انصب عليه الدم اخمد النار وقابل بين الانقداح والخمد فكان الانقداح ضراما. لقد اشار ابو الطيب في بيته هذا الى انبعاث النار والحرارة من احتكاك الاشياء الصلبة والمشحونة بالطاقة بعضها ببعض )اوقد تشتعل النار من مواد مشحونة بالطاقة فجأة كما ذكرنا آنفا( ولكن هذه النار المشتعلة يمكن اخمادها بصب مادة غير قابلة للاشتعال وهي هنا في بيت الشاعر الدم.اضافة لما تقدم فان هناك بعض المواد التي لا تحترق رغم وجود الاوكسجين مثل الحجر ولكن في مثل هذه الحالة لابد من وجود طاقة معينة لاثارة الطاقة الكامنة في هذه المادة.وهنا نلاحظ انه يحدث بعض الومضات الضوئية عندما يرتطم او يصطدم حجر بحجر آخر بقوة، وهذا الوميض ناتج عن قوة الاحتكاك مثل ما يحدث في عملية اشتعال عود الثقاب الكبريت . قال ابو الطيب في قصيدة قالها في صباه: 1 اذا الليل وارانا أرتنا خِفافها بقدح الحصى ما لا ترينا المشاعل وقال الشاعر المتنبي في قصيدة يمدح بها الحسين بن علي الهمداني: 2 ورمحي لأنت الرمح لا ما تبله نَجِعاً ولولا القدح لم يثقب الزند يقول العكبري عن البيت الأول: واراه: ستره والمشاعل: جمع مشعلة وهي النار الموقدة والمشعلة )بكسر الميم(: الآلة التي تحمل فيها النار. والمعنى: يقول: اذا سترنا الليل بظلامه أسرعت هذه الابل )ذكرها في البيت السابق لهذا البيت( حتى تصطك الحجارة بعضها ببعض وتنقدح النار فنرى ما لا نراه بضوء المشاعل. وهذا من المبالغة ويقول العكبري عن البيت الآخر: النجيع: دم الجوف ويثقب: يضيء والزند: القداحة. والمعنى: لولاك )الممدوح( ولولا جودة طعنك لم يعمل الرمح شيئا كما انه لولا القدح لم تضىء النار وانما استخرج بالقدح والعرب تقسم بالسيف والرمح والفرس، قال هجرس بن كليب: )أما وسيفي وغراريه، ورمحي ونصليه وفرسي وأذنيه، لا يدع الرجل قاتل أبيه وهو ينظر اليه( المتنبي جرى على هذا القسم. لقد أشار الشاعر في بيته الأول الى حدوث الضوء من احتكاك الأحجار التي تقذف بها اخفاف ابله بعضها ببعض، وهنا استخدم شاعرنا انبعاث الطاقة الكامنة في الحجر من شدة الاحتكاك والتصادم في وصفه لشدة وقوة ومتانة اخفاف ابله اضافة الى اشارته الى حقيقة علمية معروفة..!!! وبين الشاعر في بيته الثاني بأنه لولا القدح والاحتكاك لم تضىء النار وتشتعل واستخدم ابو الطيب هذه الظاهرة العلمية في مدح صاحبه حيث اشار بأنه لولا قوة الممدوح وشجاعته وقوة ضربه لم يفعل الرمح شيئا كالنار التي لا تشتعل الا بوجود قوة معينة. وقال المتنبي في قصيدة يمدح بها عبدالرحمن بن المبارك الانطاكي: كل هوجاء للدّياميم فيها أثر النار في سليط الذُّبال يقول العكبري عن هذا البيت: الهوجاء: الناقة التي ترمي بنفسها في السير للنشاط، ولا يوصف به الذكر فلا يقال: بعير اهوج. والدياميم : جمع ديمومة وهي الفلاة. والسليط: الدهن والذبال: جمع ذبالة وهي الفتيلة. والمعنى: يقول: كل ناقة سريعة السير قد أثرت فيها الفلوات كتأثير النار في دهن الفتيلة والمعنى: قد أفناها السير كما تفني النار دهن الفتيلة.لقد بين شاعرنا في بيته هذا ان النار تستمر بالاشتعال اذا توفرت المادة القابلة للاشتعال والاوكسجين فالفتيلة المشبعة بالدهن او الزيت تظل مشتعلة حتى تنتهي المادة القابلة للاشتعال او ينعدم الاوكسجين!! اضافة لما تقدم فانه يمكن ان ينتج عن الاشتعال السريع انفجارات ضخمة مثل تلك التي تحدث بواسطة مسحوق البارود والديناميت وغيرها.. وفي هذه الحالة فان عملية الاكسدة تتم بسرعة هائلة ناتجا عنها كمية هائلة من الغازات التي تحتاج الى فراغ كبير جدا اكبر بكثير من الفراغ الذي كان محتلا بواسطة مسحوق البارود او الديناميت قبل حدوث الاكسدة ولهذا السبب فان الغازات الناتجة تتمدد بسرعة كبيرة وبشدة ولهذا يحدث الانفجار. والانفجار في حقيقته ماهو الا زيادة مفاجئة في الحجم بسبب حدوث الاشتعال السريع )لقد سبق وان تطرقنا الى البرق والرعد في جريدة الجزيرة الغراء(.