بلغة النقد الأدبي نحاول أن نزيح كل ما يعلق بماهية الشعر الأدبية، فثمة محاولات خاطئة لفهم طبيعة الشعر، وأين تتمثل أدبية الشعر؟ هل تتمثل فيما نسمعه منطوقاً؟ وهل الأصوات التي تخرج من أفواهنا هي الشعر بعينه؟ وإذا أردنا أن نحكم على قصيدة شعرية هل نحكم عليها من طريقة إلقائها؟ طبيعي ان ماهية الشعر الأدبية ليست كذلك، وإذا كان لطريقة الإلقاء أثرها في الحكم على القصيدة وفي اعطاء القيمة الفنية، فإن القطعة الشعرية الواحدة تختلف على لسان المتلقي أو القارئ نفسه من وقت لآخر، متأثرة بحالته الخاصة, فالصوت الذي يؤدى فيه العمل الشعري حين يقرأ يضيف إليه عناصر ليست في العمل الشعري ذاته. وهل تتمثل أدبية الشعر فيما نقرؤه مكتوباً؟ وعندئذ تكون الكتابة في ذاتها، أي شكل رسم الحروف بالحبر على الورق جزءاً من القصيدة؟ وطبيعي أن هذا لا يمكن الموافقة عليه، لأن الشعر مستقل تماماً، عن هذه الحروف المكتوبة، وعن نوع القلم والحبر الذي كتبت به، وليست الكتابة في الواقع إلا نوعاً من التدوين لهذه القصيدة يضمن وجودها وبقاءها في مكان ما، ومن الممكن أن يوجد الشعر غير مكتوب حين يتمثل في الذاكرة، فالقول بأن العمل الشعري ذلك الحشد من الأصوات الجميلة يبدو غير كاف تماماً، كما لا يكفي القول بأنه تلك الحروف المخطوطة بالحبر على الورق. إذا لم يتمثل الأدب فيما هو منطوق أو فيما هو مكتوب به، ففيما اذن يتمثل؟ هنا يمكن القول بان العمل الشعري ليس شيئاً خارج العملية العقلية لافراد القراء أو السامعين، فبذلك يتحدد مع المزاولة أو العملية العقلية التي نمارسها في القراءة أو في الاستماع إلى نص أدبي، معنى هذا ان الأدب يتمثل في عقولنا، وفي نشاطنا العقلي الذي نبذله حين نقرأ الكلمة أو نستمع إليها، لكن هذا الحل العقلي بدوره غير كاف، فالقصيدة ذاتها بطبيعة الحال ليست هي نفس هذه الخبرات، فكل ممارسة فردية لتذوق قصيدة تحتوي على شيء خاص وفردي صرف، فهي تتلون بحالتنا واستعدادنا الفردي، وشخصية كل سامع أو قارئ، والثقافة والمناخ الحضاري العام في فترة من الزمن، والمفاهيم الدينية أو الفكرية أو الفنية لكل متذوق، كل ذلك يضيف شيئاً مفاجئاً جديداً لكل مرة من مرات قراءة القصيدة، فقراءتان في زمنين مختلفين لنفس القارئ يمكن أن تختلفا اختلافاً واضحاً، سواء لأنه قد نما عقلياً وفكرياً، أو لأن الظروف الوقتية أضعفت ذائقته الأدبية، كالتعب أو المرض أو التشتت الذهني، وبالتالي نجد أن كل ممارسة لقراءة القصيدة تترك شيئاً فردياً، فحتى القارئ ذو الملكة النقدية الأدبية المتمكنة سيكتشف في القصيدة الواحدة تفاصيل جديدة يعاينها خلال قراءاته، فضلاً عن قراءة شخص أقل دربة وملكة أدبية, والقول ان نشاط القارئ العقلي هو الشعر ذاته يؤدي إلى نتيجة غير معقولة، لأن هذا يعني أن الشعر لا يوجد ما لم تمارس قراءته من انسان، وأنه يخلق من جديد في كل قراءة. إذن النظر إلى العمل الأدبي متمثلاً خلال العملية العقلية سواء لدى المستمع أو القارئ، وسواء لدى المتحدث أو المؤلف يثير من المشكلات أكثر مما يساعد على حل المشكلة الأساسية, فكلمة أدب لا تعني ما هو منطوق أو مكتوب به ولا العملية العقلية لسماع ما هو منطوق أو مكتوب به الأدب. ما هية الشعر الأدبية والمعنى النثري: كذلك المزج بين الشعر والمعنى أدت إلى عدة مفاهيم خاطئة، يؤكد الناقد الأمريكي المعاصر دونالد استوفر: ان العمل الفني ليس معنى وليس فكرة، إنما هو وجود كامل وان استعمل الشاعر الألفاظ العادية إلا أنه يبعد بها عن ميدان النثر، وكلما كانت القصيدة شعرية قل امكان التفكير فيها نثرياً دون أن تتلف ، فمن المفاهيم الخاطئة لفهم طبيعة الشعر ترك الفن ذاته لتتحدث عن أشياء هي في الواقع خارج الفن، وعدم تذوق الشعر تذوقاً مباشراً ولكن بعد ترجمته نثرياً، وهنا يقول بول فاليري: ان عادة الحكم على الشعر بحسب النثر جعلت الذوق العالمي يصبح شيئاً فشيئاً نثرياً . إن اللغة في الشعر لها شخصية كاملة تتأثر وتؤثر، وهي لغة فردية أكثر حيوية من التحديات المعجمية، وفردية لغة الشعر تعني انه غير قابل للترجمة، وبول فاليري تناول مشكلة اللغة وصلتها بطبيعة الشعر ويرى أن ترجمة الشعر ليست مستحيلة فحسب، بل انه يستحيل نقل القصيدة إلى صورة نثرية من لغتها كذلك. وهذا المزج أدى أيضاً إلى فهم خاطئ وهو تصور ان طريقة بناء الشاعر العربي قصيدته كان يعد المعنى نثراً ثم ينقله شعراً وابن قتيبة نثر أبيات: ولما قضينا من منى كل حاجة,, الخ وراح يفتش في النثر عن جمال الشعر وطبيعي ان يخيب رجاؤه. من هنا كانت ضرورة الفصل بين الشعر والمعنى والأغراض في تقييم العمل الفني، كذلك الفصل بين علاقة الأوزان أو البحور الشعرية والأغراض, فالشعر عند دونالد استوفر ايقاعي بطبيعته، والإيقاع هو حركة الأصوات الداخلية التي تعتمد على تقطيعات البحر أو التفاعيل العروضية، والإيقاع هو التلوين الصوتي الصادر عن الألفاظ المستعملة ذاتها، في حين يفرض الوزن على الموضوع , ان نظرة استوفر في الفصل بين الوزن والايقاع تهدم الفكرة التي تربط بين الأوزان والأغراض، ويمكن للمرء ان يجد في الشعر العربي مجموعة قصائد على وزن واحد وذات أغراض مختلفة كأن يكون بعضها في الرثاء وبعضها في الغزل وبعضها في الهجاء. خلاصة القول: ضرورة الفصل بين ما هية الشعر الأدبية وطريقة الالقاء والكتابة الخطية والممارسة العقلية والمعنى النثري، والفصل بين البحور والاغراض الشعرية.