لقد اهتم القرآن الكريم والسنة النبوية برعاية اليتيم وكفالته والعناية بشأنه، فقد نال اليتيم من العناية ما لم ينله أي قريب محتاج من ذوي الرحم المحرم وكأن الإسلام جند المسلمين جميعاً للقيام بحق اليتامى والتقرب إلى الله بالعطف عليهم ونيل أرفع الدرجات بسبب البذل لهم والقيام بما يحتاجون إليه من رحمة وحسن تربية وإقبال عليم وتبسم في وجوههم ومسح رؤوسهم وتفقد شؤونهم في كل حين خصوصاً في المواسم السارة وأيام الأعياد، وذلك ليشعر اليتيم أنه إن كان فقد أباه فقد وجد في الرحماء آباء يعطفون عليه ويتولون أمره فلا تنكسر نفسه ولا يشعر بذلة أو حزن وهو يرى كل ولد يسير بجوار أبيه ويقبل بفرحة عليه ويرتمي بين أحضانه لأنه وجد له من المسلمين أكثر من واحد يصنع معه ذلك، وهذا هو المنهج الإسلامي في إدخال السرور على الجميع وفي نشر روح السعادة بين أفراد المجتمع وفي تحقيق أكبر قدر من العناية والرعاية والعطف للضعفاء والمحرومين، ولو تمعنا في الآيات والأحاديث الواردة في شأن إكرام اليتيم والعطف عليه وبره لوجدناها تضع اليتيم الأجنبي بعد الأقرباء في الأهمية فكيف باليتيم القريب؟ قال تعالى -وآتى المال على حبه ذوي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل والسائلين وفي الرقاب...- البقرة 177. وقال تعالى -يسألونك ماذا ينفقون قل ما أنفقتم من خير فللوالدين والأقربين واليتامى والمساكين وابن السبيل- البقرة 215. وأما احاديث المصطفى صلى الله عليه وسلم في الحث على إكرام اليتيم فكثيرة منها قوله صلى الله عليه وسلم -مَنْ مسح على رأس يتيم لم يمسحه إلا لله، كان له في كل شعرت مرت عليها يده حسنات-. وحسبك من هذا قوله صلى الله عليه وسلم في الحديث الذي أخرجه الامام البخاري في صحيحه -أنا وكافل اليتيم في الجنة هكذا وأشار بالسبابة والوسطى وفرَّج بينهما-. فأي جزاء أعظم من مرافقة الرسول صلى الله عليه وسلم في الجنة. ولذا وعى الصحابة رضي الله عنهم هذا الفضل فبلغ بهم الأمر إلى التخاصم على كفالة اليتيم، كل يدعي أنه أولى به كما جاء ذلك في صحيح البخاري في تخاصم علي وجعفر وزيد رضي الله عنهم في كفالة ابنة حمزة رضي الله عنهم حتى رفعوا أمرهم إلى الرسول صلى الله عليه وسلم فقضى بينهم. ومع أن اليتيم فقد والده وهو عامل من أهم عوامل النجاح في الحياة إلا أن المتصفح للتاريخ والذي يستقرئ حال المجتمع يرى نبوغ اليتيم أمر مشاهد محسوس. فهو قد سبق أقرانه في مضمار الحياة من أبناء الموسرين الذين اعتمدوا على ثروات آبائهم أو وجاههم في المجتمع، فيحوِّل هذا اليتيم نظرة الرحمة إليه إلى نظرة إعجاب وكلمات العطف إلى كلمات إشادة وذلك باعتماده على نفسه وسعيه لإثبات ذاته. وفي حال عيش اليتيم حياة المعاناة والحرمان يظهر للجميع سبب نبوغه وهو تحمُّل المسؤولية مبكراً ومواجهة أعباء الحياة، وهذه عوامل لصنع الرجال لكن ثمة سبب آخر لنبوغ اليتيم الذي لم يعش حياة المعاناة أو الحرمان وهو سعيه لرد الجميل الذي في عنقه لكافله وإظهار ثمرة عمله له. وكم من كافل ليتيم أصبح يفتخر به أعظم من افتخاره بأبنائه وكم من يتيم برَّ كافله أعظم من أبنائه به. ففقد الوالد الذي هو سبب لليتم لا يعني عدم نجاح اليتيم ونبوغه بل على العكس من ذلك. ولو رأينا سير العلماء لوجدنا نبوغهم رغم يتمهم بل ربما كان هذا اليتم سبباً للنبوغ كالشافعي وأحمد والبخاري وغيرهم من أئمة الإسلام واعلام الهدى.