سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.
الطفل الفلسطيني الشهيد هو شاعر أجدر مني على كتابة الحياة الشاعر الفلسطيني مريد البرغوثي.. شاعر وجوائز في الرواية والقصة
النقد المؤازر للقضية الفلسطينية ليس نقداً أدبياً
بين دواوينه العشرة وروايته الوحيدة «رأيت رام الله» التي حصلت على جائزة نجيب محفوظ، وثلاثين مدينة تنقّل فيما بينها يكمن عالم مريد البرغوثي الشعري الذي يمثل حالة متفردة في الشعر والأدب الفلسطيني، وقد حرص الشاعر منذ بداية تكوينه على ان يكون لمفرداته ذوقا وطعما ونكهة خاصة. عن الشعر والرواية والمدن والنقد تحدث مريد البرغوثي في حواره ل «الجزيرة»... * أي مفارقة تكمن في ان تكون اول جائزة الشاعر مريد البرغوثي عن القصة في مدرسة رام الله الثانوية عام 1960 وأخيرا جائزة عن روايتك رام الله رغم دواوينك الشعرية العديدة؟. بعد ابتسامة عريضة يجيب الشاعر «مريد البرغوثي»: حدث هذا بالفعل لكن ما لم تذكريه انني نلت في العام التالي 1961 جائزة عن الشعر، وبغض النظر عن الجوائز، فقد نظرت لنفسي طوال الوقت منذ مرحلة تشكل الوعي وبداية مرحلة الشباب على انني انسان مهتم بالشعر ومنذ القصة التي كتبتها عام 1960.. وفي الطريق عشت تجربة لم يكن يمكن لها ان تخرج الا بالطريقة التي خرجت بها «رأيت رام الله» ورغم الاحتفاء الذي قوبلت به.. سيظل الشعر هو الطريق الذي استقبل به العالم وهو ايضا الطريق الذي اعبّر به عما بداخلي للعالم، فطريقتي في تلقي الحياة مكثفة.. بها كثير من الدقة وعدم الاخذ بالشائع والمألوف، وحتى عندما كتبت النثر كتبته بهذه الطريقة فاحرص على عدم السقوط في اللغة الانشائية. * اذا كان «عالم الشعر» هو قدرك واختيارك.. كيف كانت الملامح المبكرة لعالم مريد البرغوثي الشعري.. وهل كانت ثمة دروب او مشاريع تسعى لخوضها؟ في المراحل المبكرة لا تكون الأمور محددة تماما أمامنا.. بل يكون أهم ما لدينا مشاعرنا الحادة والكثيفة ومحركاتنا الوجدانية وبواعثنا التي تنطلق من الآراء والانطباعات والمواقف واشكال السخط والرضا.. في السنوات المبكرة لدى كل الناس هناك أحاسيس وانفعالات ومشاعر.. تتأجج وتطالب بحقها في «العبور» الى الخارج ويختلف الناس في طريقة «التعبير» التي يختارونها وانا كان طريقي هو الشعر.. فكان كل مخزوني الوجداني وطريقي في فهم الأشياء او حتى «عدم الفهم» يختار الشعر وجزء كبير من هذا يرجع لاهتمامي باللغة العربية.. فأنا من محبيها.. رغم ذلك لم ارغب في دراستها بالشكل الأكاديمي الذي أراه عادة ما ينصب على تناول القواعد.. من هنا كان عشقي للغة العربية هو ما جعل اداتي في التعبير لا تذهب الى اي طريق آخر سوى الشعر فالشعر هو «الكلام الأكثر كفاءة» كما يقول ولدي تميم دائما!! * اذاً متى كونت مفردات لغتك الشاعرية الخاصة بعيدا عن دوامات التقليد والتكرار؟ لا يوجد شاعر يجد لغته الخاصة دون تخبط كبير، يبدأ عادة بأن يكتب الشاعر وفي ذهنه ما يكتب عنه، وهي اول خطورة تتشكل على الصوت الخاص.. فطوال الوقت حتى في لحظة الكتابة.. يضع في ذهنه ما يكتب عنه.. ويدور حول ذهنه ايضا التجارب الشائعة في زمانه، لكن بعد قليل يكتشف الشاعر ان «بصمته» الخاصة.. ونبرته الذاتية جدا.. تختبئ في مكان ما داخل هذا الكم الوفير مما يكتب.والشاعر الأصيل هو من يمسك بهذا الخيط الابداعي في عتمة التخبط التي تحيطه.، ويلاحق بصمته الخاصة ولا يجعل عينه تبتعد ابدا عن هذا الشعاع من النور، وفورا يسقط جانبا كل ما هو شائع من الكتابة في زمانه ومكانه، ومن هنا يستدرج نفسه بعيدا عن الطريق المكتظ، ليجد لنفسه مسلكه الخاص الخالص له. * وهل هذا ما حدث معك شخصيا في ديوانك «قصائد الرصيف» الصادر عام 1980م؟ نعم فالتجربة التي يعكسها هذا الديوان تخصني بشكل كامل، تجربة بها «اقتراح» ما بكتابة لم تكن مألوفة من قبل.. فهناك بناء في القصيدة ومشهدية.. وهنا عمل تقوم به عين المتلقي، فيه قصائد تخاطب «حاسة البصر» دون البعد عن الدقة والاقتصاد في اللغة وهي دقة اشبه بدقة الجراحين، حيث يصعب تبديل كلمة بأخرى، ويصعب ترتيب الأبيات ترتيبا مخالفا.فللأسف دوما كان عنصر البناء مغفلا في القصيدة العربية، رغم ان البناء في الفن في تقديري لا غنى عنه في ابداع أي فن. لذلك قلت ذات مرة «انني ابني ولا اغني».ورغم ذلك لا ينبغي على الشاعر ان يتوقف عن اقتراح واحد.. فعندما انتهيت من قصائد الرصيف اصبح عليّ الا اقلد نفسي، فبعد ان ينفلت الشاعر من دائرة الا يقلد غيره عليه ان ينفلت من الدوران في نفس الدائرة حول نفسه فيقع في فخ تقليد نفسه والا اصبح متوقعا. ذروة المسعى * اذاً الوصول الى مقترحات جديدة في الكتابة.. على ماذا يعتمد.. هل على مجهود يبذله الشاعر ام على إلهام شعري ينتظره؟ عدة عوامل.. منها عدم الاعجاب بالذات الى حد الاحساس بالوصول الى نهاية الشوط الى ذروة المسعى، لأن هذا الشعور يدمر اي نبتة ابداع قد تأخذ طريقها للنمو.فالمبدع لا بد ان يوقن ان الدنيا موجودة من ملايين السنين والكائن البشري موجود فقط من مئات السنوات.. ولا يوجد احد يعتبر نفسه ختام المسعى في أي شكل من أشكال الابداع.. فكل ابداع هو درجة من درجات السلم اللانهائي. ومن يظن نفسه كذلك لا يخسر سوى نفسه وبالنسبة لي كان الوصول لمقترح جديد له طريقة واحدة لا تتغير.. وهي ان اسلم نفسي لما تتطلبه التجربة المعيشة، فلا توجد تجربة تتطلب التعبير الجمالي الذي تتطلبه تجربة اخرى.فالقصيدة كالورقة البيضاء.. مع السطور الأولى تتضح معالمها.. وتطالب بشكلها الخاص، ومن هنا كتبت مبكرا قصيدة النثر، والتفعيلة اضافة الى الشكل العمودي.. ولا أتورع عن كتابة أي شكل من الأشكال الثلاثة كلما اقتضت الحاجة.من هنا الاستسلام «المخلص» لما تتطلبه اللحظة الابداعية هو طريقي الذي لم أحد عنه، لذا ظهرت اشكالا اخرى.. مثلما ظهرت عليه قصائد ديوان «منطق الكائنات» فكان ديوانا قائما على مائة نص قصير جدا، اقرب ما كان يسميه العرب «التوقعات» وهو محاولة «للاصغاء» الى ما يمكن ان تقوله الكائنات اذا امتلكت القدرة على النطق!! من نبات وحيوان وجماد وانسان.. وكل نص يبدأ ب «قال أو قالت» والديوان كاملا كتب بنفس شعري واحد، أتوقف عندما يكون كتابة قصيدة اخرى .. لا تشبه هذا العالم الموجود في الديوان. * مع هذا التجدد الدائم الى اي مدى تهتم بالمردود النقدي لأعمالك؟ ليس كثيرا، املك ان اقولها بصراحة مطلقة في ظل خيبة الأداء النقدي العربي الآن، خاصة اذا كان «الناقد العربي» يصعب الحديث عن وجوده اصلا.فللأسف ليس لدينا حركة نقد ثقافي او أدبي، ودون شك يرجع ذلك لغياب الحريات.. فالنقد كمهنة شرطها الأساسي «الحرية»، بينما الكتابة الابداعية لا شرط لها، لأن حتى المسجون في زنزانة يستطيع ان يبدع، وفي ظل أعتى حركات القمع في العالم ظهر شعراء يكتبون. لكن النقد هو الذي توجه له لطمة قوية في غياب الحريات. فالناقد لا بد ان يمتلك الحرية والجرأة والمعيار الأوحد للتقييم وهو «القيمة الابداعية».ومن هذا المنطلق أرفض ان يمجد الأدب الفلسطيني ل «اسباب تضامنية» وليس لأسباب فنية كامنة في هذا الأدب، فالنقد التضامني المؤازر للقضية ليس نقدا أدبيا. وبعيدا عن الأدب الفلسطيني، فهناك قضية اكبر، وهي ارتباط النقد بالاعلام!! الأمر الذي أدى الى التأثير السلبي على الذائقة العامة لدى الناس، وبالتالي اصبحوا اقرب الى الاختيارات السيئة. فتم تخريب الذوق العام الى درجة ان الأعمال الرديئة اصبحت تلقى اعجابا وحفاوة كبيرة لأسباب غير ابداعية. * تعبير «ديمقراطية الكتابة» الذي استخدمته في سياق حديثك عن كتابك النثري، الى أي مدى يصلح للشعر.. أم ان الشعر يجب ان يكون ذاتيا؟ استخدمت هذا التعبير بالتحديد في سياق اعتراض على حركة النقد العربي، فالناقد غير الجيد يدلف الى النص الأدبي وهو محكوم ومكبل بفكرة مسبقة، وهو ما اعتبره تناولا استبداديا للعمل، فانصار شكل أدبي ما يدخلون في قراءة عمل ما مختلف عن النموذج الذي يقرونه دخولا عدوانيا سلفا، وهذا ما أسميه «التناول الاستبدادي»، لذا قدمت ورقة الى احد المؤتمرات الأدبية عنوانها «الديمقراطية والاستبداد في تناول العمل الفني»، قلت فيها ان على الناقد ان يقبل على العمل الأدبي الذي يتصدى له.. بشكل «ديمقراطي» بريء من أي احكام مسبقة، ويسلم نفسه لاقتراح الكاتب.. * ماذا عن ديوانك الصادر أخيرا.. «الناس في ليلهم»؟ يحمل هذا الديوان خمس مغامرات كتابية جديدة، فهو مكون من خمسة عوالم مختلفة منها «ليل الرمان» «صمت الأمكنة» «ليس في الاوليمب».. وكل عنوان من الخمسة تندرج تحته قصائد فرعية تنتمي لعالم مشترك.. ومجمل القصائد تتراوح بين التراجيديا والسخرية الحادة..أما الديوان القادم.. فقد انجزت جزءا كبيرا من قصائده.. وبعيدا عن هذا الديوان اكتب قصيدة طويلة منفردة بعنوان «الى أين تذهب في مثل ليل كهذا» . * بعد هذه السنوات.. ماذا قدمت لك الكتابة .. وماذا قدمت للكتابة؟!. بكل صدق أقول ان ما اكتب لم يكن أبدا مبعث سرور لأي رسمية من الرسميات العربية حتى بالنسبة للمشهد الثقافي الرسمي الفلسطيني.. لم اكن ابدا جزءا منه. ولا استغرب هذا.. لأني أؤمن ان «الأدب» اعتراض انتقادي بالأساس، ورغم هذه السنوات.. وهذه التجارب الكثيرة جدا.. وانتقالي بين كل هذه البلدان وعيشي في 33 منزلا في حياتي.. لم استقر في أي منها فترة كافية لتبين معالمه.. الا انني ما زلت غير قادر على اقرار القبح السياسي الذي يدور في العالم العربي وصل الأمر الى ان احدا لم يعد يهتم بما ينضحه الشعر من همومنا ومشاكلنا وقضايانا. الأدب الفلسطيني * واذا تحدثنا تحديدا عن الأدب الفلسطيني.. هل استطاع ان يجسد واقع الانسان الفلسطيني؟ للأسف «الانسان الفلسطيني» يعنى به اعلاميا فقط في حالة كونه «ضحية» او «ارهابيا» هكذا يصورنا العالم ويعاملنا كحالة «اكلينيكية» اكثر مما ينظر الينا كشعب كبقية الشعوب، لدينا لدى كل ما لدى الشعوب.. حياة كاملة.. بها طفولة وكهولة وصبا وعشق وخيانات صغيرة.. وجامعة ومدرسة.. زراعة وصناعة.. كل هذا منسي، كل مشهد من مشاهد الحياة الانسانية الفلسطينية محجوب عن المعرفة الانسانية.. لا يرى، لا احد يرى فلسطينيا عاديا رب اسرة تحيا كالعالم.. للأسف هذا الوضع «يشيء» بأكمله .. ويحوله الى حالة «مختبرية» ، هنا يأتي دور الثقافة.. بان تركز على الفلسطيني «ابن الحياة» وليس فقط «ابن القضية».فإذا استطعنا تقدير صورة الفلسطيني الانسانية.. نكون وضعنا «ادب مقاومة» فنحن كبشر لدينا جميعا شيء ثمين جدا هو الحياة، كلما ساهمنا في تكريس قيمة هذه الحياة.. فليست القضية ابدا ان يتصاعد اعداد الشهداء.. فالثمن المقدم ليس «العدد» لكنه حيوات كاملة تضيع لكل ما تحمل من احتمالات.. ترنيمة ياسين لذلك قلت في تعليقي على «رام الله» .. «ومن يدريكم ان من بين الأطفال الذين ماتوا، من لو عاش لكان شاعرا اهم مائة مرة مني»فالطفل الصغير عندما يموت تموت معه جميع احتمالاته.. فالطفولة والأطفال «كالأهلة» التي يقطفها الموت قبل اكتمالها كما قلت في احدى قصائدي والانتفاضة الفلسطينية الحالية.. والسابقة هدفها الاسمى.. هو المحافظة على الحياة الفلسطينية.. التي تعمل الحركة الصهيونية منذ مائة عام على نفيها.. ويواصل المستوطنون الجدد و«الذئاب البشرية الجديدة» على محوها. * بالاضافة الى «رام الله» ماذا تركت الأماكن داخلك.. خاصة انك قلت انك عشت في 33 منزلا؟. منذ ثلاثين عاما وأنا أتنقل..فمن رام الله الى عمان الى الكويت الى القاهرة ثم بيروت فبغداد ثم بودابست ثم عمان ثانية ثم القاهرة.. وفي كل مرة كان للسفر ظروف مختلفة.. وفي كل اقامة كانت في بيت مختلف.. الأمر الذي أوجد وبشكل دائم مشاعر محزنة داخلي لأن كل دائم لدي هو مؤقت.. ولافتقادي الاحساس بالمكان.. صرت أعيش في الزمان بعدما صرت أخشى الارتباط بالمكان.. خاصة لأني اعلم انني سأتركه.. وفي كل فراق لكل مكان من هذه الأماكن كنت أترك كتبي وأشرطتي الموسيقية أما أكثر ما كان «يقتلني حزناً» تركه فهو نباتاتي المنزلية دون توفير رعاية لها، لذلك كانت تجربة عودتي «لرام الله» بعد ثلاثين عاما من الغياب مختلفة.. وجدت بها ما يسر ووجدت ايضا ما لا يسر.. وكتبت عن الاثنين معا!! رد الفعل * اذاً الى اي مدى ادهشك رد الفعل على رواية «رأيت رام الله»؟ ربما تدهشين عندما أقول لك انه لم يكن مدى بعيدا، لأنني اعلم انني دفعت للنشر جيدا.. لذلك عند استلامي جائزة نجيب محفوظ التي يقدمها قسم النشر بالجامعة الامريكية اخترت عنوانا لكلمتي يحمل مضمونا أود قوله في هذه الرواية.. وهو «ليس شعرا او نثرا .. انها النظرة ذاتها» لأن شخصيتي وروحي واسلوبي ولغتي.. جميعها موجودة في هذا الكتاب.. وكانت ايضا موجودة ولا تزال في كل اعمالي الشعرية.. لكن القضية في النهاية تتمحور في طريقة الوصول.. فلو كان كتاب الشعر يصل للقارئ كما تصل الرواية لكان للشعر الآن مكانة مختلفة، فللأسف وصول الشعر صعب.. وتلقيه اكثر صعوبة من تلقي النثر.. وعلى كل حال رغم عدم دهشتي لكن المؤكد هو انني سررت من هذا الاحتفاء بالرواية.