انتظرت لوعة الفراق ان تخبو، واحزان الايام ان تنجلي فأبت الا البقاء، فتناولت قلماً اتعقبه حزيناً يدفعه قلب مكلوم وجناح مهضوم مكثراً من الدعاء وطلب المغفرة لسراج من سرج الامة وعلم من اعلامها وامام من ائمتها, نشر الله به العلم واخرج على يديه المؤلفات، مع ما هو فيه من العبادة العظيمة التي ليس عليها مزيد في حياته بما اخذ نفسه فيها من الجد والتشمير واليقظة والتفطن, ولا شك ان موت العلماء ثلمة لا تسد وهم اولى من غيرهم بالتبجيل واحق ممن هو دونهم في الثناء ومعرفة الفضل لهم، انهم ورثة الانبياء واعلام الهدى ومصابيح الدجى، حفظ الله بهم الدين وانار بهم السبيل، تضرب لهم اكباد الابل وتطوى لاجلهم الارض، وتثنى لعلمهم الركب, قال الامام الزهري: ما عبد الله بشيء افضل من العلم . وقال ايضاً: لا اعلم بعد النبوة افضل من العلم . هذا مع الحرج الشديد والرغبة من الجميع في بقاء اعمال الشيخ خفية بعد موته كما كان يحب في حياته، ولرغبة الاقتداء والتأسي واعلام سواد الامة ان الخير باق فيها الى قيام الساعة، وطمعاً في دعوة صادقة ترفع درجته وتعلي نزله كتبت اليسير احياء للهمم وبعثاً للنفوس، انها كلمات في حياة عالم زاهد عابد وما نحن الا كما قال الشاعر: انا المكدي وابن المكدي وهكذا كان ابي وجدي وهو وان كان ابي نسباً فهو للعلماء وطلبة العلم ذو نسب رفيع فيهم ومنهم، فلا تخلو مكتبة من المكتبات من مجلدات من تأليفه وجمعه وتحقيقه على بعد فيه عن الشهرة والاضواء وعدم محبة للظهور. رحم الله الشيخ ورفع درجته واعلى نزله فقد افنى عمره في البحث والتأليف والتعليم والتدريس ولندرة حديثه عن نفسه وعمله فقد يعذر مثلي في التقصير فغالب السير تكتب بيد اصحابها او ممن حولهم، ونحن مع عالم يخفي حسناته مثل ما يخفي احدنا سيئاته، ولهذا صعب التوسع وقل الزاد، وأقدم للقارئ نزراً يسيراً من سيرته وبعضاً من صفاته وسجاياه: ولد رحمه الله عام 1345ه في بلدة البير التي تبعد عن الرياض 120 كم شمالاً ونشأ رحمه الله في بيت علم ودين، ودرس في الكتاتيب ثم تلقى العلم على العديد من العلماء والمشايخ، منهم والده العلامة الشيخ عبدالرحمن بن محمد بن قاسم وسماحة الشيخ عبداللطيف بن ابراهيم وسماحة الشيخ عبدالعزيز بن باز وسماحة الشيخ عبدالله بن حميد رحمهم الله ومن اخص مشايخه واكثرهم اثراً في حياته سماحة الشيخ محمد بن ابراهيم آل الشيخ الذي درس عليه كثيراً ولازمه خمساً وعشرين سنة منذ عام 1357 وحتى عام 1381ه, وقد درس رحمه الله الدراسة النظامية في المعهد العلمي ثم تخرج من كلية الشريعة من ابرز زملائه فيها الشيخ عبدالله بن جبرين وفقه الله الذي كان يتنافس معه على المركز الاول في الدراسة. وكان رحمه الله محباً للعلم صبوراً على طلبه حافظاً له، حفظ كتاب الله عز وجل وكثيراً من المتون، كالزاد والالفية، والواسطية، والتدمرية، وغيرها. حياته العلمية: درّس رحمه الله في معهد امام الدعوة وهو طالب في كلية الشريعة لم يتخرج بعد، ثم بعد تخرجه من كلية الشريعة درّس في المعهد العلمي بالرياض ثم في كلية الشريعة وكلية اصول الدين وناقش العديد من رسائل الدراسات العليا, ومن ابرز تلاميذه سماحة مفتي عام المملكة الشيخ عبدالعزيز بن عبدالله آل الشيخ، وقد اعتذر رحمه الله عن تولي كثير من المناصب التي عرضت عليه، وقام مع والده الشيخ عبدالرحمن بجمع الثروة العلمية العظيمة لشيخ الاسلام ابن تيمية, مجموع فتاوى شيخ الاسلام ابن تيمية في 37 مجلداً حيث سافر مع والده الى الشام والعراق ومصر واوروبا بحثاً عن ذلك التراث العظيمة, ثم اضاف رحمه الله على هذا المجموع المستدرك على مجموع فتاوى ابن تيمية في خمسة مجلدات جمعه في اكثر من اثني عشر عاماً, وقد اخرج في مجلدين كبيرين كتاب بيان تلبيس الجهمية , ومن وفائه ومحبته لشيخه العلامة محمد بن ابراهيم رحمه الله اخرج فتاواه ورسائله في ثلاثة عشر مجلداً بأمر من الملك فيصل رحمه الله وكانت تطبع في مكة مما جعله يقيم فيها ويسافر منها الى الرياض اسبوعياً عن طريق البر، ليجتمع بابنائه واقاربه في الرياض، واستمر على هذا الجهد والعناء سنوات طويلة حتى طبع هذا المجموع ونفع الله به، واصبح مرجعاً للعلماء والقضاة وطلاب العلم، وله من الكتب المطبوعة ايضاً: ابو بكر افضل الصحابة واحقهم بالخلافة وكتاب: آل رسول الله واولياؤه و موضوعات صالحة للخطب والمواعظ واخرج من شروح الشيخ محمد بن ابراهيم كشف الشبهات و آداب المشي الى الصلاة وغيرها. صفاته: عرف عن الشيخ منذ نشأته كثرة العبادة والمداومة عليها وطول قيام الليل الذي يتجاوز ثلاث ساعات وحج اكثر من خمسين حجة متواصلة، وكان يختم القرآن في رمضان كل يوم وفي غيره كل ثلاثة ايام، محافظاً على المكوث في المسجد بعد صلاة الفجر الى ما بعد شروق الشمس حريصاً على اتباع السنة في جميع اموره، متواضعاً رأيته سنوات طويلة في مكة يقدم الماء والقهوة بنفسه للصائمين عند آذان المغرب، وكان رحمه الله حسن السمت مع هيبة تلازمه ووقار، وكان آية في الصبر وكظم الغيظ والزهد في الدنيا والورع والبعد عن المظاهر وقد اتته الدنيا وهي راغمة على مناصب عليا فردها، وساق الله اليه الاموال فتصدق بها، وهو مع هذا الانفاق يغتسل في اناء صغير ولا يستعمل الدش المائي اطلاقاً ويرى ان ذلك من الاسراف ويسعه ما وسع النبي صلى الله عليه وسلم الذي كان يغتسل بالصاع, ولا يؤثر عنه رحمه الله انه طلب احداً شيئاً من امور الدنيا البتة حتى في بيته اذا اراد شيئاً لا يطلب الا من والدتي وعلى استحياء، وقد حججت معه حججاً كثيرة متتالية فما كان يطلب مني ان اترك او اضع او افعل، بل كان يقوم بنفسه فان اعنته والا فلا يطلب مطلقا، وفي هذا امتثال لامر الرسول صلى الله عليه وسلم عندم اوصى ابا بكر الا يسأل الناس شيئاً، ومن رآى عبادته وثباته ومداومته عليها تذكر حال السلف الصالح. وكان حليماً صبوراً قليل الكلام لا يتحدث فيما لا يعنيه يعد كلامه من الجمعة الى الجمعة، متورعاً عن الفتوى ولم يعرف عنه انه يفتي الا في ضيق الحدود في الحج وذلك لحاجة الناس الآنية للفتوى، وكان رفع الله درجته مداوماً على ذكر الله عز وجل واستغفاره، باراً بوالديه احياء وامواتاً واصلاً رحمه، اذا تحدث على قلة كلامه يستفيد من في المجلس من علمه فلديه معلومات واسعة واطلاع عجيب وتحليل عميق، فان تحدث في العلم فهو بحر لا ساحل له، وان تكلم في الزراعة حسبته من خبراء الزراعة، وان تحدث في احوال المسلمين فهو المجيد الخبير بها وكان رحمه الله ذا ذاكرة قوية واستحضار فريد خاصة لاقوال شيخ الاسلام والشيخ محمد بن ابراهيم، وقد سألت علامة المدينة الشيخ حماد الانصاري رحمه الله مرة عن قول لشيخ الاسلام، فقال لي: اسأل والدك، فلو تنفس شيخ الاسلام لعرف والدك نفسه, وسألته يوماً عن دعاء ختم القرآن لماذا لم يوضع في مجموع الفتاوى فقال: الغالب انه لشيخ الاسلام ولا نجزم بذلك، وان كان صدر الدعاء لا يتجاوز الاثنين ابن تيمية وابن القيم لجزالته وقوة الفاظه. وقد رزقه الله مهابة عجيبة في قلوب الخاصة والعامة مع انه لا يعنف ولا يرفع صوتاً ولا يضرب اطلاقاً، سألته يوماً عن الضرب فقال: ابي رحمه الله لم يضربني، ونحن نقول ان ابانا لم يضربنا مع المهابة العظيمة له في قلوبنا, ومع هذه الهيبة الا انه ذو طرفة عجيبة ونكتة لطيفة فقد ذكر لنا يوماً ان مصلياً اتاه بعد ان ام المصلين لتغيب الامام وقال له: المكيفات لا تعمل واكثر عليه من الكلام، قال: فقلت له:انا بدل فاقد. وفاته: توفي رحمة الله وهو بكامل حواسه وقواه يوم الاثنين 27/6/1421ه في مدينة الرياض اثر حادث مروري أليم وصلي عليه في الجامع الكبير عصر الثلاثاء وام المصلين سماحة مفتي عام الملكة الشيخ عبدالعزيز آل الشيخ ودفن في مقبرة النسيم، وحضر الصلاة وتشييع الجنازة خلق كثير لا تجمعهم الا مثل هذه الجنائز يتقدمهم العلماء وطلبة العمل, وله من الابناء ستة منهم الشيخ عبدالمحسن بن محمد القاسم امام وخطيب المسجد النبوي والقاضي بالمحكمة الكبرى بالمدينة، وعبدالملك كاتب هذه السطور، وعبداللطيف وعمر واسامة وهم مدرسو علوم شرعية، واسماعيل داعية في وزارة الشئون الاسلامية, وقد رأى الشيخ بنفسه ثلاث رؤى مبشرة قبل موته بأيام قلائل ولم يذكر ما هي، ورئيت له رؤى طيبة قبل موته وبعد موته, رحم الله الشيخ واسكنه فسيح جناته وجزاه عن الاسلام والمسلمين خير الجزاء، وبارك في عقبه وجعلهم هداة مهتدين, انا لله وانا اليه راجعون.