الحمد لله نواصينا بيده، والحمد لله ماض فينا حكمه، والحمد لله عدل فينا قضاؤه والصلاة والسلام الأتمان الأكملان على نبينا محمد خير البرية,, كل مصاب بعده جلل وعلى آله وأصحابه والتابعين ومن تبعهم بإحسان أما بعد: فإن من عجائب الدهر عمومه بالنوائب، وخصوصه بالرغائب فتتوالى المصائب وتحل البلايا بعضها بما كسبت ايدي الناس وبعضها ابتلاء من الحكيم الخبير ليتذكر المتذكر ويتدبر المتدبر، ويراجع الناس أنفسهم لعلهم الى ربهم يرجعون. ويأتي فقد العلماء مصيبة من أعظم مصائب الدهر، ويعظم الشعور بالمصيبة بقدر عظم المفقود، ويشتد الولع والوله بقدر التعلق بالمفقود، والعلماء بربك من أعظم مفقود وأعز غائب بفراقهم يشتد الألم، وما سواهم وجود كالعدم,, فهم ورثة الأنبياء، ومصابيح الدجى، والضياء في الظلماء، والدواء للداء، بهم يعرف الحق من الباطل، ويستبين الحلال من الحرام، ويتميز الهدى من الضلال، فضلهم ظاهر وذكرهم عاطر وحبهم آسر, هم حملة الشريعة، وكنز الأمة وحماة الدين وكيف لا يكون فقدهم مصيبة ورحيلهم رزية وقد قال نبينا محمد صلى الله عليه وسلم: (إن الله لا يقبض العلم انتزاعاً ينتزعه من صدور الرجال ولكن يقبض العلم بموت العلماء حتى إذا لم يبق في الأرض عالم اتخذ الناس رؤوساً جهالاً فسئلوا فأفتوا بغير علم فضلوا وأضلوا). بحياة العلماء تحيا الأمم، وبموتهم يضيع الناس، وان من الناس من لا يفقده الا أهله، بل فيهم من منيته أمنية الأماني فلا حول ولا قوة إلا بالله. والباعث للتقديم بهذه الكلمات ما تعيشه الأمة في هذه الأيام من لوعة فقد امام جهبذ، وعالم علم نحن على فراقه محزونون، ولا نقول إلا ما يرضي ربنا ذلكم هو الإمام العالم العلامة، حبر العلوم، وبحر المعارف، شيخ الفقه، وإمام السنة الشيخ محمد بن صالح العثيمين، رحمه الله ورفع درجاته في عليين وأسكنه فسيح جنته وأمطر عليه من شآبيب رحمته. عظم الخطب بفقده وجل الأسى لفراقه بعظم المكانة التي بوأها الله له في القلوب. ولكن يخفف المصاب، ويسلي المحزون، ما يتابعه القارىء والمطالع على صفحات الصحف السيّارة، وعبر وسائل الاعلام المتنوعة من منثور القول ومنظومه من حديث عن الشيخ وذكر لمآثره، ودعاء له بالرحمة والمغفرة وتضرع للمولى الكريم ان يعوّض خيراً. ان تكاثر الكتابة عن أهل العلم ومداولة الأحاديث بفقدهم وعظم الفراغ الذي يحدثه فراقهم، والثلمة التي تفتح بوفاتهم لا يكون إلا في مجتمع تحكمه شريعة الله, انه لا يتجلى الاحساس بفقد العلماء ولا تظهر مكانتهم إلا حين يكون الدين غالبا في الأمة تعلي الدولة مكانته، وتحمي محارمه وتحفظ لأهل العلم مكانتهم. إن تقدير مكانة أهل العلم ينبع من تعظيم الشريعة وتمكينها، فمن عظّم الشريعة عظم حملتها، واعترف لهم بفضلهم وهذا ما تعيشه بلادنا بفضل الله ومنّه بأهلها وولاتها. وليعلم أنه لا يحظى بالتقدير والاحترام ولا تعظم المكانة ولا يكتب القبول والامامة بإذن الله إلا لمن جمع بين العلم والعمل وحسن قصده، وابتغى الله والدار الآخرة، ذلكم هو الذي يفقد اذا غاب ويعظم به المصاب اذا واراه التراب, ونحسب أن الشيخ محمداً رحمه الله من هؤلاء العلماء العاملين ولا نزكي على الله أحداً, يوضح هذا المعنى ويجليه آيتان من كتاب الله في سورة واحدة هي سورة فاطر. الآية الأولى قول الله سبحانه وتعالى: (إنما تنذر الذين يخشون ربهم بالغيب وأقاموا الصلاة) وهؤلاء هم العاملون. أما الآية الثانية فقوله سبحانه: (إنما يخشى الله من عباده العلماء) وهم العلماء العالمون بالله العالمون بشرعه, يقول بعض السلف (كان يقال: العلماء ثلاثة: عالم بالله عالم بأمر الله، وعالم بالله ليس بعالم بأمر الله، وعالم بأمر الله وليس بعالم بالله, فالعالم بالله وبأمر الله الذي يخشى الله ويعلم الحدود والفرائض، والعالم بالله وليس بعالم بأمر الله الذي يخشى الله ولا يعلم الحدود ولا الفرائض، والعالم بأمر الله وليس بعالم بالله الذي يعلم الحدود والفرائض ولا يخشى الله عز وجل) تفسير ابن كثير. والظن إن شاء الله ان الشيخ رحمه الله تعلّم وعلّم من أجل الآخرة وشمر للعمل من أجل الآخرة بلغه الله حسن المثوبة. إنه شيخ علم ليعمل، اهتم بالعلم النافع علم الآخرة أما العلوم الأخرى فهي عنده علوم آلة لخدمة علم الآخرة، لقد تعلّم الشريعة وعلّمها بحديثها وفقهها وتفسيرها مشغول وقته بالعلم والذكر والفقه والوعظ والتوجيه والفتوى بلسانه وقلمه. نهج في التعليم والدعوة والنصح والتوجيه مسلك الحكمة والموعظة الحسنة والجدال بالتي هي أحسن مع الحرص الشديد على تجنب الجدل والدخول في الردود والتعقبات فلا يكاد يحفظ له شيء في باب الردود والتعقيبات. بل كانت له طريقة فريدة في التعليم وشحذ همم الطلاب وإثارة الأسئلة التعليمية وضرب الأمثلة والتخريج على القواعد,, وفي الافتاء له مسلك ظاهر في القصد الى التيسير والاعتدال مع لزوم الأدب مع المخالف واحترام فقه الخلاف. كان حسن الرعاية لتلاميذه متابعاً لتحصيلهم مما جعل قلوب طلاب العلم تتعلّق به وترحل اليه وتثني ركبها بين يديه, لقد كان له يد طولى في رعاية الشباب وحسن توجيههم، والنأي بهم عن مزالق الفتن، وانحرافات التحزب دؤوبا في النصح لهم وتوجيههم وبيان لمنهج الحق بما أوتي من علم وحكمة وقوة وقبول. لقد وسعهم بعلمه، كما وسعهم بحلمه، وشملهم برعايته كما شملهم بتوجيهه. أما في سيرته الشخصية رحمه الله فلم يطمح لزينة الدنيا ومتاعها، تحدث عن زهده وورعه وتعففه القاصي والداني، ورأى ذلك ولمسه من عرفه وصاحبه وعايشه ولازمه. لقد حماه الله وسلمه من الأمراض التي تفشو بين كثير من طلبة العلم من أمراض القلوب كالحسد وحب الشهرة وجواذب الهوى، وحب الظهور يقصم الظهور, لقد كان رحمه الله لسان صدق صادعا بالحق ملتزماً به مقيما عليه مع رعاية الحكمة, في حديثه ألفة، وفي ابتسامته مودة، وفي كلامه بيان، وجه طليق ومجلس لا يمل كان محل ثقة والقبول، اذا فزعوا إليه فقد فزعوا الى ركن شديد. خلّف رحمه الله ثروة علمية هائلة ينتفع بها بعده إن شاء الله ليمتد له أجرها وثوابها ولعلها ان تكون بفضل الله صدقة جارية وقافلة بر وإحسان ووعاء نصح وهداية ومنار علم وفقه فلقد دارت المطابع وسارت الصحف وعلا رنين الهواتف وصوت الاشرطة مسموعها ومرئيها، وصدح المذياع وبث التلفاز وضمت الكتب مؤلفات ابن عثيمين وفتاوى ابن عثيمين وأشرطة ابن عثيمين ورسائل ابن عثيمين ومطويات ابن عثيمين رحمه الله رحمة واسعة. هذه لمحات من قبسات وشذرات في اضاءات من سيرة هذا العالم النحرير في فقهه الدقيق وورعه المتين وزهده الرفيق وعلمه الغزير، عم به المصاب ورثاه الأقارب والأغراب، وشيعته الأمة وودعته الملايين في مواكب مهيبة توافدت من أنحاء شتى تقدمت فيها القلوب على الأقدام وسبقت الأرواح فيها الأشباح وسالت الدموع من هذه الجموع. بكاه العلماء والعامة وحزن عليه الشيوخ والشباب أحدث رحيله ثلمة وفراغاً في العلم والفتوى والبر والتقى. تبكيه قلوب التفت حوله والتقت به في حلقات الدروس والتحصيل ومجالس الوعظ والتوجيه ومنابر الدعوة والخطابة ومع عظيم اللوعة وألم الفراق فإن لله عزاء من كل مصيبة وخلفا من كل فائت ودركا من كل ذاهب ولا نقول إلا ما يرضي ربنا: إنا لله وانا اليه راجعون. وإن من أعظم ما يعزى به أهل الاسلام ويخفف مصابهم في فقد علمائهم ان الله سبحانه بفضله ورحمته قد حفظ على هذه الأمة دينها وفضله سبحانه ليس مقصوراً على بعض العباد دون بعض ولا محصوراً في عصر دون عصر، بل انه سبحانه يقيم في كل فترة من الزمن أئمة عدولاً من كل خلف أمناء مخلصين، علماء مصلحين ينفون عن دين الله تحريف الغالين وانتحال المبطلين وتأويل الجاهلين يدعون الى الهدى ويذبون عن الحمى ويبصرون من العمى ويصبرون على الأذى، فليس حفظ دين الله مقصوراً على ما حفظ ويحفظ في بطون الصحف والكتب ولكنه بإيجاد من يبينه للناس في كل وقت وعند كل حاجة فلله الحمد والمنة. رحم الله شيخنا وأحسن منقلبه وأجزل مثوبته ورفع في العليين درجته وعفا عنا وعنه وأصلح عقبه وذريته وعوّض المسلمين عنه خيراً ووفق علماءنا وسددهم وأحسن إليهم وزادهم فضلا وتوفيقاً وإحسانا وأدام النفع بهم انه خير مسؤول وأكرم مأمول وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم. صالح بن عبدالله بن حميد