كلمات في: رثاء معالي الشيخ محمد بن عبد الله بن سبيل –رحمه الله- الحمد لله، النافذِ أمره، الغالب قهره، لا رادّ لقضائه ولا معقب لحكمه سبحانه وبحمده جعل لكل أجل كتاباً وللمنايا آجالاً وأسباباً، وأصلي وأسلم على الهادي البشير والسراجُ المنير نبينا محمد بن عبد الله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه والتابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وسلّم تسليماً كثيراً. أما بعد: فإن لله سبحانه وتعالى الحكمة البالغة والقدرة النافذة في كونه وخلقه وإن مما كتبه الله جلّ وعلا على خلقه الموت والفناء يقول سبحانه: كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَالْأِكْرَامِ، ويقول –عز وجل-: وَمَا جَعَلْنَا لِبَشَرٍ مِنْ قَبْلِكَ الْخُلْدَ أَفَإِنْ مِتَّ فَهُمُ الْخَالِدُونَ كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ. هو الموت ما منه ملاذ ومهرب متى حط ذا عن نعشه ذاك يركب وإن أعظم أنواع الفقد على النفوس وقعاً وأشدّه على الأمة لوعة وأثراً فقدُ العلماء الربانيين والأئمةِ المصلحين؛ ذلكم لأن للعلماء مكانةً عظمى ومنزلة كبرى فهم ورثة الأنبياء وخلفاءُ الرسل والأمناءُ على ميراث النبوة وهم للناس شموش ساطعة وكواكب لامعة وللأمة مصابيح دجاها وأنوار هداها بهم حُفظ الدين وبه حفظوا وبهم رُفعت منارات الملّة وبها رفعوا يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَات، فهم أهل خشية الله إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ ولذلك كان فقدهم من أعظم الرزايا والبليةُ بموتهم من أعظم البلايا، وأنَّى للمدلجين في دياجير الظلمات أن يهتدوا إذا انطمست النجوم المضيئة، صحّ عند الإمام أحمد وغيره من حديث أنس –رضي الله عنه- أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : "إنما مثل العلماء كمثل النجوم يهتدي بها في ظلمات البر والبحر فإذا انطمست النجوم أوشك أن تضل الهداة"، يقول الإمام أبوبكر الآجريُ ~: "فما ظنكم بطريق فيه آفات كثيرة ويحتاج الناس إلى سلوكه في ليلة ظلماء فقيض الله لهم فيه مصابيح تضيء لهم فسلكوه على السلامة والعافية، ثم جاءت فئام من الناس لابد لهم من السلوك فيه فسلكوا فبينما هم كذلك إذ طفئت المصابيح فبقوا في الظلمة فما ظنكم بهم، فهكذا العلماء في الناس"، وحسبنا في بيان فداحة هذا الخطب وعظيم مِقدار هذه النازلة قولُ المصطفى صلى الله عليه وسلم في الحديث النبوي الذي خرّجه الشيخان عن عبدالله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما : "إن الله لا يقبض العلم انتزاعاً ينتزعه من الناس، ولكن يقبض العلم بقبض العلماء حتى إذا لم يبق عالماً اتخذ الناس رؤوساً جهالاً فسئلوا فأفتوا بغير علم فضلّوا وأضلّوا، وقد قال حبر الأمةِ وترجمانُ القرآن عبدالله بن عباس رضي الله عنهما في قوله تعالى : أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا نَأْتِي الْأَرْضَ نَنْقُصُهَا مِنْ أَطْرَافِهَا ، قال : بموت علمائها وفقهائها وخيار أهلها، كما في الصحيحين من حديث أبي هريرة –رضي الله عنه- قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "تظهر الفتن ويكثر الهرج ويُقبض العلم"، فسمعه عمر يأثره عن النبي صلى الله عليه وسلم فقال : "إن قبض العلم ليس شيئاً يُنتزع من صدور الرجال ولكن فناء العلماء"، وقال عبدالله بن مسعود –رضي الله عنه- : "عليكم بالعلم قبل أن يقبض وقبضه ذهاب أهله، وفي الأثر عن علي -رضي الله عنه-:"إذا مات العالم ثُلِم في الإسلام ثُلمةً لا يسدّها إلا خلفٌ منه"، وقال الحسن –رحمه الله- : "موت العالم ثلمةٌ في الإسلام لايسدها شيءٌ ما اختلف الليل والنهار"، وقيل لسعيد بن جبير –رحمه الله- ما علامةُ الساعة وهلاكِ الناس؟ قال : إذا ذهب علماؤهم، ولما مات زيد بن ثابت –رضي الله عنه- قال ابن عباس رضي الله عنهما : "من سرّه أن ينظر كيف ذهابُ العلم فهكذا ذهابه"، وقال -رضي الله عنه-:"لا يزال عالم يموت وأثرٌ للحق يدرس، حتى يكثر أهل الجهل ويذهب أهل العلم، فيعملون بالجهل ويدينون بغير الحق، ويضلون عن سواء السبيل". إذا ما مات ذو علم وتقوى فقد ثلمت من الإسلام ثلمة يقال ذلك أيها الأحبة في هذا الوقت الذي رزئت فيه أمتُنا الإسلامية بفقد عالم من علمائها ووفاةِ إمام من أئمتها، ألا وهو فضيلة الشيخ الوالد العلامة/ محمد بن عبد الله بن سبيل –عليه رحمة الله- إمام وخطيب المسجد الحرام، وعضو هيئة كبار العلماء، وعضو المجمع الفقهي، والرئيس العام لشئون المسجد الحرام والمسجد النبوي سابقًا، ثلمته لاتسدّ والمصيبة لفقده لاتحدّ والفجيعة لموته نازلة لا تنسى وفاجعة لا تمحى والخطب بفقده جلل والخسارة فادحة، فليست الرزية على الأمة بفقد جاه أو مال أو بموتِ شاة أو بعير كلا ثم كلا، ولكن الرزية أن يُفقد عالم يموت حين موته جم غفير وبشر كثير. لعمرك ما الرزية فقد مال ولا شاة تموت ولا بعير ولكن الرزية فقد شهم يموت بموته بشر كثير فموت العالم ليس موت شخص واحد، ولكنه بنيان قوم يُتهدم وحضارة أمة تتهاوى. وما كان قيس هلكه هلك واحد ولكنه بنيان قوم تهدما لقد فقدت الأمة الاسلامية بوفاة معالي الشيخ محمد بن عبدالله السبيل عالما من علمائها الذين اشتهروا بالتواضع ولين الجانب وحسن الخلق والعلم الواسع، عالماً عاملاً، قضى في محراب المسجد الحرام ومنبره أكثر من أربعين عاما إماما وخطيبا ومدرسًا لطلاب العلم في حلق المسجد الحرام، وكان رحمه الله واسع العلم ثاقب الفكر قليل الكلام، وإماماً مشهوداً له بالفضل، يلتقي بجميع من يريد مقابلته وينظر في حاجاتهم فيقضيها إن كانت في يده ويشفع شفاعات حسنة لدى الآخرين... وقد استقبل العالم الإسلامي نبأ وفاته بالحزن العميق، وكم هي الاتصالات والتعزيات التي تلقتها الرئاسة من مديري الجمعيات والمراكز الإسلامية في شبه القارة الهندية وأوربا وجنوب أفريقيا وغيرها. ولقد شرفت بالعمل معه رحمه الله منذ تعييني إماما وخطيبا للمسجد الحرام ووجدت منه كل محبة وعون وتوجيه. وأذكر له ويذكر غيري كثير خيره وفضله علينا جميعًا في الحرم ومنسوبي الرئاسة فكان ~ منذ أن وطئت قدماي مكة لنيل شرف الإمامة في الحرم الشريف استقبلني بكل حفاوة وشجعني على القيام بهذه المهمة العظيمة، وقال لي استلم الراية، وكان يشرفني بالإنابة عنه في صلاة العشاء كثيرًا في الحرم الشريف؛ لتعدد رحلاته ومسؤولياته، وكان بمثابة الوالد الحاني والمعلم الباني، وهو مدرسة في العلم والفضل والحكمة وحسن الخلق وموسوعة في معارفه وآدابه وحسن معشره وملاطفته، وكان محل تقدير ولاة الأمر والعلماء؛ لما حباه الله من مزايا. وكان شيخنا الشيخ عبد العزيز بن باز ~ يجله ويعتبره مرجعية معتبرة في مكةالمكرمة لعلمه وفضله، وهو بحر في الفقه لاسيما فقه الحنابلة، وقد نلت شرف التدريس في الحرم في عهده المبارك ووجدت منه التشجيع والدعم الكبير، وسعى لي ولزملائي الأكارم في وجود خلوات في الحرم تعين على راحة الإمام وقيامه بمسؤوليته، وقد عني ~ بمعهد الحرم وكان من أساطينه وأعمدته ورموزه، وقد أفدت من مجالستي له كثيرًا فهو كتاب مفتوح ومدرسة متميزة لا تمل مجالسته ولطف معشره، جمع الله له بين العلم والعقل والأدب والخلق وحب الناس له. وقد عني ~ بالرحلات الدعوية فلا تكاد تمر سنة إلا وله مشاركات في الدعوة إلى الله خاصة في باكستان والهند وجاليتيهما في أمريكا وأوربا وغيرهما، وله عندهم مكانة مرموقة استثمرها ~ في حبهم للحرمين وأئمتهما وعلمائهما في نشر المعتقد الصحيح والمنهج القويم، وهو أديب متمكن وأريب بارع وما مرثيته الشهيرة في سماحة الشيخ عبد الله بن حميد ~ إلا دليل على علو كعبه في الشعر والأدب، وله مؤلفات كثيرة وإسهامات في أبحاث المجمع الفقهي، كما كان هو ومعالي الدكتور صالح بن حميد حفظه الله يمثلان لي مدرسة نهلت منها في مجالات شتى خاصة إبان قدومي إلى مكةالمكرمة، فجزاهما الله عني خير الجزاء. وقد كنت مع أخي الصديق الصفي والخل الوفي لابنه الدكتور/ عمر ~، نفيد منه كثيرًا في فنون متعددة، فرحمه الله رحمة الأبرار، وأمطر على قبره شآبيب الرحمات الدرار. وإن من حسن العزاء عند فقد العلماء أن دين الله محفوظ وشريعته باقية وخيره يَفيض ولا يَغيض فأعلام الديانة مرفوعةٌ بحمد الله ولا تزال طائفة من أمة محمد صلى الله عليه وسلم على الحق ظاهرين لا يضرهم من خذلهم ولا من خالفهم حتى يأتي أمر الله وهم على ذلك، كما صحّ بذلك الخبر عن سيد البشر عليه الصلاة والسلام خرّجه مسلم وغيره وأخرج أبوداود بسند جيد، والحاكم وصححه : "أن رسول الله قال : إن الله يبعث على رأس كل مائة سنة من يجدد لهذه الأمة أمر دينها"، وعِلْم هذا الدين يحمله كل من خلف عدوله ينفون عنه تحريف الغالين وانتحال المبطلين وتأويل الجاهلين، ولم تُصب الأمة بمُصيبة هي أعظم من مصابها بفقد الحبيب المصطفى صلى الله عليه وسلم فالمصيبة بفقد من بعده تهون مهما كان شجاها، كما أن من حسن العزاء أن هؤلاء العلماء رحمهم الله باقون بذكرهم أحياءُ بعلمهم يلهج الناس بالثناء عليهم والدعاء لهم ويجتهدون في اقتفاء آثارهم وترسم خطاهم علماً وعملاً ودعوة ومنهجاً، تشبهاً بالكرام إن لم يكونوا مثلهم، فذلك أمارةُ الفلاح وطريق الخير والصلاح، كما أن من حسن العزاء أيضاً أن علماء الشريعة ولله الحمد والمنةُ متوافرون عبر الأعصار والأمصار يُحي الخلفُ منهج السلف، وإننا لنرفع من العزاء أصدقه، لولاة أمرنا ولعلمائنا وطلاب العلم عامة، وأبناء الشيخ، وأسرته وأقاربه ومنسوبي الرئاسة ومحبيه في العالم أجمع؛ رحم الله شيخنا ورفع درجته في المهديين، وأخلفه في عقبه في الغابرين، وجمعنا به ومشايخنا في جنات النعيم، إنه جواد كريم. كما نسأله سبحانه أن يلهمنا رشدنا وأن يغفر لمن مات من علمائنا، ويرفع درجاتهم في المهديين، ويوفق الأحياء لبيان الحق والدعوة إليه وأن يرزقهم التسديد والتأييد ويكتب لهم القبول ودوام النفع، وأن يخلف على الأمة الإسلامية خيراً ويحفظها من شرور الغير وهولِ الفواجع، لله ما أخذ وله ما أعطى وكل شيءٍ عنده بأجل مسمى والحمد لله على قضائه وقدره وهو وحده المستعان ولا حول ولا قوة إلاّ بالله العلي العظيم، إنا لله وإنا إليه راجعون، ﴿وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ﴾. رحم الله الوالد العلامة الشيخ محمد بن سبيل رحمة الأبرار، وأسكنه أعالي الجنان، مع النبيين والصديقين والشهداء والصالحين، وحسن أولئك رفيقا، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين. وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليمًا كثيرًا. كتبه: عبد الرحمن بن عبد العزيز السديس إمام وخطيب المسجد الحرام الرئيس العام لشؤون المسجد الحرام والمسجد النبوي