ها هو طائر الصحراء الذي كان من (وحوش الطير) قد دجنّته المدائن حتى نسي التحليق في سماء الله نحو الآماد القصوى وأصبح يدبّ على قدميه كالبطريق (الأرفل) وها هو رأسه يكاد أن يتفجر مما حشاه فيه من تنظيرات متعبة وثقافة كثيفة وقراءات شتّى ومعارف لا حد لها واهتمامات لا لزوم لها على الإطلاق، لذلك فقد حاسة التذوق الفني وبساطة المرء ودهشة الطفولة، كان كل شيء يضج في دماغه مثل هدير المصانع الكبرى ودوي الرعود البعيدة والصواعق المذهلة، كاد قلبه أن يتشظى ليتطاير قطعة قطعة في الهواء الطلق، وفي لحظة حاسمة من التصالح مع الذات قال لنفسه: (انسَ ما علمت، وامحُ ما كتبت، وعد كما أنت) لذلك نهض بتؤدة وأعاد أجنحته القديمة إليه وانتخى مخالبه المعدنية ومنسره الحاد وأطلق جناحيه للفضاء، فضاء البراءة الأولى نحو صحرائه القديمة وراح يغني وهو في كبد السماء مع آخر أغنية فيروزية حيث أقفل أذنيه عن الغناء النشاز لمدة طويلة وهو يستعيد الفن المدهش العذب هازجاً. حبيت ما حبيت .. ما شاورت حالي بيدق باب البيت ميّه مره اقبالي ما بحس أني بروح .. أو ما بروح - (للدبكة) حتى بقيت .. رايحه جايه في البيت طاوشني خلخالي يرتفع الطائر قليلاً ويصفق بأجنحته مع روعة الصوت: لشو بتقنعني في غرامك فيّا ما الكذب مثل الشمس بتشوفه في الفيّه كذاب .. مش كذاب .. رد الباب .. هلاّ بس خفّ الحس .. ليك الناس .. اتجمعوا أعليا يحلق أكثر وأكثر حتى يكاد أن يغيب في زرقة السماء النادحة ولم تزل الأغنية تتردد في مسامعه الضجرة: مفروض أنت تكون كل الوقت بحدّي فوتنّي بطريق ما شكلا بتودي الكل معهم علم .. انو أنت، كيفما كنت رغم القهر رغم الدهر .. رغم المهر ما بدي!! يحلق أعلى فأعلى حتى انقطع صوت فيروز وغاب هو في الأفق الفسيح لذلك أخذ بالهبوط التدريجي حتى رأى نفسه: بسهول قفرٍ خالط العشب ووروده بقيضهٍ يا كنها نقش زوليّه أيتخطى فيه من زمّه نهوده طلعه زبيدي نبت به عقب وسميه يذكرونه عازبٍ لوحده بزوده سارحٍ به للحدود الشماليه برقعه يطرخ ولا همه الموده ما همه إلاّ سرح ملحاء جماليه يا هني البرقع إن لامس خدوده واليا دلع جيده، كما شمس عصريه يا ويل من يقرب ل(شاصه) وباروده فالمنايا مترّسه من حواليه من دون ذلك فيه ما ينهي وجوده فالعيون الخرس تنهيه موليه بعدها وقّع على رجم ليس بالمرتفع ليتأمل ربيع السهول.