المطارُ مشهدٌ عابرٌ في مسرح الحياةِ، محطَّةٌ تتوقَّف فيها قليلاً أو طويلاً لتسلكَ مساراً آخر، صخبٌ وهديرٌ، طائراتٌ تنطلق في كلِّ الاتجاهات، وأخرى تحطُّ من كلِّ صوب، وتذهبُ الطائراتُ ويبقى المطارُ، وكذلك الحياة، بشرٌ يرحلون بعد أن يؤدّوا أدوارهم على مسارحها، وتبقى الحياة... يرحلون إلى حيث يتمنّون وربّما إلى حيث لا يدرون. سأعترفُ بلا ترددٍ أنني أكره المطارات بمقدار حبّي للسَّفر. في المطار يلتقي الغُرباءُ بالغُرباء، ولا وقت لقراءة الوجوه العابرة، ويعكسُ المارّون بجوارك كمَّ التَّنوع البشري الهائل: فمن يُطلِقُ لحيته، ومن يلتفُّ بعمامةٍ، وأخرى تكشفُ عن مرمر ساقيها إلى الأعلى... وتكشف صدرَها إلى ما دون نَحرها حتى يوشك نهداها أن يطفرا خارج الثياب، وأخرى لا يظهر منها سوى بريق عينيها، وعلى الرَّغم من شدَّة الحرِّ تضعُ قفازات سوداء في يديها. خليطٌ عجيبٌ من البشر لا تراه إلا في المطارات: كلٌ إلى وجهته، مركزُ توزيعٍ للحقائب وللبشر، تشمُّ رائحةَ وطنٍ لن تراه وتغادرُ وطناً لا يأبه بك. ولدى مرورنا فوق البحر الأبيض المتوسط، ألقيت نظرة عبرَ الكوّة الضَّبابية لأرى الدَّفق البشري أسراباً مجهولة المصير تشقُّ طريقَها عبر الأمواج، أو تنام في قرار اللجّة، جرّاء الاضطرابات التي يموجُ بها العالمُ العربيُّ بحثاً عن عيشٍ آمنٍ على شواطئ أوروبا، تتمتَّعُ البحار بمحدوديّتها، ففي نهايتها سواحل، وأوروبا أقدر على صهر ذوي البشرة السَّمراء ببوتقة المواطنة، لخلقِ جيلٍ جديدٍ أكثر قدرة على التعايش. وأخيراً... وصلنا إلى الجزائر، بعد ستِّ ساعات محلِّقين فوق بلادٍ تعصفُ بها رياح التغيير وتحتدم الصراعات وتتعارك القوى، في العلن والخفاء، لرسم خرائط جديدة لا عهدَ لنا بها من قبل. حطَّتْ بنا الطائرةُ في مطار هواري بومدين، مطار أليف مزيَّن بفسيفساء من كلِّ الولاياتالجزائرية تشكِّلُ لوحةً جميلةً عن تعايش الحضارات وانصهارِ الفنون ما بينَ العربِ والأمازيغ، وما بين المسلمين والمسيحيين، والمواطنين والمهاجرين، على مرِّ التاريخ. هنا مرَّ الرُّومان وتركوا آثارَهم وكذلك الفرنسيُّون، مرَّ غزاةٌ كُثر، وذهبَ الجميع ولم يتبقَّ سوى الجزائر للجزائريين. بعد الاستراحة في فندق شيراتون الصنوبر البحري الذي وصلناه بعد ساعةٍ من خروجنا من المطار، استقلَّينا سيارةً وتوجَّهنا إلى وسط المدينة الذي يبدو من الوهلة الأولى نابضاً بالحيوية والإحساس، ويتمتَّع بشوارع واسعةٍ تحيطها الأشجار من الجانبين ويبدو الطراز المعماري الفرنسي طاغياً في كلِّ البنايات وتشعرُ بأنَّك في باريس. جلسنا في أحد المقاهي في شارع ديدوش مراد لاحتساء الشاي، حيث لا توجد النرجيلة في مقاهي الجزائر، ويعود اسم الشارع إلى ديدوش مراد الذي ولد في 14 تموز (يوليو) 1927م والذي يصادف العيد السنوي للثورة الفرنسيَّة، ولكن كُرْهَ الأب أحمد والأم فاطمة للاستعمار الفرنسي جعله يسجّله على أنَّه ولد يوم 13 يوليو بدل 14 يوليو، وكان الأب يمتلك مطعماً شعبياً في حي «لارودت» الذي سمي لاحقاً ب «المرادية» تكريماً لمراد الذي كان من أوائل الشهداء. ولمَّا أصبحَ الصَّباح علينا بالخير، انطلقنا إلى مطار الجزائر وامتطينا الرّياح على متنِ طائرةٍ لا أذكر من رحلتها سوى المضيفة «عبلة» التي أغرقتنا بدلالها وابتسامتها، لكن الخيال تمادى بي حتى شعرتُ بأنّي عنترة أبحث عن النُّوق الحمر، لكن تلك النّوق النادرة لم تعد صالحة مهراً لعرائس العشاق الطائرين في الأجواء. وصلنا إلى مطار «دغين بن علي لطفي» في ولاية «بشار» بعد مرور ساعة وربع السَّاعة أمضيناها في ضيافة «عبلة» التي ودَّعتنا بدندنة أغنية «خليك هنا خليك... وبلاش تسافر»، ولكن بهمَّة متثاقلة ورغبة في البقاء في أحضان الطائرة كان لا بد أن نغادرها، ولم يبقَ فيها سوى عبلة وخيال عنترة. توجهنا من المطار إلى فندق السَّاورة الذي أخذ اسمه من وادي السَّاورة، وهو أحد وديان «تاغيت» التي تبعد 93 كلم عن «بشار»، واسم المدينة تاغيت نسبة لأحد قصورها الرئيسة والذي يقع على بعد 6 كلم جنوب الزاوية الفوقانية، ومن أشهر قصورها: قصر الزاوية الفوقانية وقصر الزاوية التحتانية ويطلق عليه أيضاً زاوية ابن عثمان، ويوجد في هذه القصور الكثير من المساكن، فهي أشبه بقلاع منها القصور. في الواحة تمتدّ واحة «تاغيت» على طول 18 كلم على ضفاف وادي زوز فانة، وعلى مقربة منها توجد نقوش على الصخر تعود إلى ما قبل التاريخ، ومنها رسوم حيوانات كانت تسكن المنطقة في عصور غابرة. وصلنا بعد مرور ساعة وعشرين دقيقة إلى خيمة للطوارق وسط الصحراء لتناول الغداء، وكان عبارة عن خراف مشوية على طريقة الطوارق حيث يخترق السفود الخراف بعد ذبحها وتنظيفها وتوضع على حطب مشتعل. جلست أقلّب الخروف ممسكاً باليد الحديدية التي تشكّل جزءاً من السفود، وطقطقة الحطب ترسل الدخان حاملاً رائحة الشّواء الذي يخترقنا، وكنت جالساً القرفصاء وبجانبي رجل لفحته شمس الصحراء ولا يبدو من وجهه المغطّى سوى عينيه، ويرتدي جلباباً بلون السَّماء، وغير بعيد منّا، كانت أمٌّ من الطوارق تجلس أمام صاج دائري محمول على أحجار، وتحته حطب متّقد يطقطق ويرسل بوهجه الأحمر، وشذرات النار المتزاحمة كرذاذ البحر تتطاير من حولنا، والرائحة الأولى للخبز تداعب أنوفنا، وقد اختلطت رائحة الشواء مع رائحة الخبز متداخلة مع صوت الوالي يدعونا إلى الطعام، فالتففنا حول الخراف التي وضعت على طاولات دائرية حيث يؤكل المشوي في الجزائر وقوفاً. تناولنا غداءنا ببطء وصمت إلا من طقطقة الحطب، وسرعان ما هبّت نحونا رائحة الشاي الصحراوي التي بدأت في تشكيل دوائر تتَّجه إلينا إيذاناً بموعده. والطوارق مشهورون بفن إعداد الشاي في الصحراء على طريقتهم الخاصة، وهم يقدَّمونه في أباريق نحاسية ويُصَبُّ ساخناً من علوٍّ لتستمتع بإيقاع انصبابه في الكأس وليكوِّن رغوةً في أعلاه، والعادة أن يقدَّم ثلاث مرات: الكأسُ الأولى تكونُ مُرةَ المذاق قوية التأثير كالولادة، والثانية نصف حلوة كالحياة، والثالثة حلوة كالموت. عدنا بعد ذلك إلى فندق السَّاورة للاستمتاع بقيلولة ما بعد الغداء، وحرصنا على الاستيقاظ سريعاً والانطلاق لرؤية الغروب في الصحراء، واستقللنا سيارة «جيب» متوجهين إلى الكثبان الرملية وسط الصحراء الكبرى وكان السائق يدعى مصطفى المقدم. وقد سأله صديقي عن عدد سكان ولاية بشار، فأجاب: الله أعلم. وأردف صديقي بسؤال آخر حول عدد سكان «تاغيت» فأجاب السَّائق: كتير... كتير، الله يبارك. هكذا أمضينا وقتنا في دروب الصحراء وسط أجوبة عبثية، ومطبَّات وحواجز طبيعية تعترض طريقنا فنهتزّ أحياناً، ونعلو ونهبط كالحليب الذي يتم خفقه أحياناً أخرى. كثبان متموجة وصلنا إلى منطقة مليئة بكثبان متموِّجة ذهبية اللون مائلة إلى الإحمرار، وتقابلها في الجهة الأخرى مجموعة من الجبال الصخرية على هيئة سلاسل متباعدة ومتلاحمة، صعدنا أحد الكثبان الرملية على ارتفاع نحو كيلومتر لمشاهدة غروب الشمس من خلف الجبال، وهو منظر بديع يسرُّ من يراه ويبعث الطمأنينة في النفس. لكن السير في الرمال يحتاج إلى أخفاف خاصة انفردت بها الإبل عن سائر المخلوقات. كنا نضع أقدامنا على حافة الكثيب، لكنها سرعان ما تغوص في لجة الرِّمال الناعمة التي تقفز وتتدحرج حبيباتها حول أقدامنا، لتفسح في المجال لمزيد من الغوص، ولم يكن يوجد أعلى الكثيب سوى آثار أقدامنا وآثار غراب كان يتسكَّع قبلنا. ولقد استغرقنا في صعودنا عبر الرمال نحو خمس وأربعين دقيقة، فهي عملية شاقَّة ومضنية إلا أن الرِّمال هنا كالضوء لا يعلق منها شيء في جسدك، تغوص بها وتخرج منها كالمستحم نظيفاً طاهراً... إنَّها الصحراء في عذريّتها، في براءتها... وجلال روعتها. كنت نصف جالس ونصف مستلقٍ، متكئاً على الرِّمال وسط الكثبان محاولاً أسر بعضٍ من أشعة الشمس عندما غافلتني، وأخذت رويداً رويداً تهرب مختبئة خلف الجبال وصوت الريح يدوي مع تطاير ذرات الرَّمل الذهبية. ونزلنا من أعلى الكثيب برويَّة واتئاد، وركبنا السيارات التي أخذت تنهب الأرض نهباً في طريق عودتنا إلى الفندق. أقيم العشاء في خيمة فخمة وفاخرة بجوار الفندق، وكان «المشوي» سيّد المائدة كعادة أهل الصحراء في إكرام الضيوف. وخلال العشاء، كانت فرقة «بوحزمة خليفة بوزيان» ترتدي الملابس المحلّية وتدندن ببعض الأغاني الشعبية، محاولة التشبُّث بالتقاليد والعادات المتوارثة، في قضية خاسرة، ومسعى لا طائل من ورائه، فأحد أفرادها رنَّ الهاتف الخاص به خلال الحفل، ليذكّرنا بأننا في قرن جديد وعصر مختلف، فالحياة متسارعة وأصبح البشر يعيشون في عالم متعدّد من الثقافات المختلطة والهجينة، فالفرقة كالغريق الذي يحاول التشبُّث بالموروث الشعبي الذي أنتجته جغرافية المدينة الفاتنة التي تزيدها غموضاً على غموض قبل العولمة، ويغلب على الأغنيات المدائح النبوية، وكان صوتُ المنشد يتخلَّلُ أحاديثنا مناشداً سيّد الأنام: «بك أستجير ومن أستجير بسواك، إني ضعيف أستعين على ذنبي ومعصيتي ببعض قواك». بدأ الاسترخاء يتسرَّب إلى الحضور، فانسحبنا فرادى وجماعات إلى غرفنا حيث النوم كان في انتظارنا. لكنني لم أستطع النوم ولم أشعر بالارتياح، كان ثمَّة صوت غير مسموع يناديني، إنها الندّاهة. خرجت متسربلاً ببعض الأردية قاصداً الخيمة التي كنَّا نجلس فيها... جررتُ بساطاً إلى مكان بعيد عن الخيمة ثم عدت وأخذت متّكأً منها... وما إن وصلت إلى البساط حتى ألقيت بجسدي في أحضان الكون، مستلقياً على ظهري، أمامي سماء تعرَّت لي... وكشفت عن حقيقتها... إنَّها سماءٌ ليست كغيرها من السَّماوات، تسهل قراءتها: فهذا برج الدّلو/السَّاقي... ويكاد وجه ساقي «زيوس» غانوميد أن يكون واضح المعالم، وها هو برج العذراء يتراءى لي مُخفياً خلف نجومه «دايك» إلهة العدالة التي هجرت الأرض وأدارت ظهرها للبشر وغادرت إلى السماء بلا رجعة، والنجوم السَّبعة بجوار كوكبة العذراء تتأرجح وسط السَّماء كضفيرة «بيرينيس» وها هي كوكبة الجدي وقرونه، والعقرب وأرجله. مقبرة الأبطال إنَّها السَّماء تكشف عن حكاياتها، فنحن نخون السماء عندما لا ننظر إليها، ونخون الأرض عندما نستنزف مواردها، ونزهو ونغترُّ بأفعالنا وكأنَّ السَّماءَ لا ترانا والأرضَ لا تنصت إلينا. النجوم تنبئنا بأنَّنا لسنا الوحيدين في الكون، إنها مقبرة الأبطال، لكنَّ غرور البشر يزداد ويرسخ، يبني ويهدم، وفي النهاية نُدفن تحت الأرض وعلى مرأى من السَّماء. هنا تولد الأساطير حيث أرى للمرَّة الأولى في حياتي نجوماً لا حصر لها تتَّخذ أشكالاً متغيِّرة، إنها تراوغك... فقد تراها نهاية لحكاية، وربَّما تكون بداية لحكاية أخرى، فمن الدُّب الأكبر إلى الأصغر، إلى أندروميدا المقيّدة بالسّلاسل، وحكايات الإغريق كلّها هنا... وهي في حاجة لمن يقرأها. يا إلهي... إنها مليئةٌ بالنُّجوم والليل يا هيلانا... ما أجمله، وهو ينبسط مرصّعاً بتلك اللآلئ التي تضيء لنا عتمة الليل وتهدينا الطريق، فوضى من الحسن والجمال جمعتها «تاغيت» لمن يريد في لحظة من الليل، مسبّبة جروحاً لا تراها العين، ليتها تستمر... لكن الفجر بأشعَّته يمحو الليل والظَّلام الجميل. سرحت بفكري نحو أحد هذه النجوم متخيلاً رائياً يجلس عليها وينظر نحو الأرض. إنه لن يرانا، بل سيشاهد مساحات شاسعة من الغابات والسهول وحيوانات عديدة تتسيّدها الديناصورات، ولم يكن حينذاك قد بدأ عهد الإنسان، يا لها من مفارقة مثيرة للدهشة. لا يملك المرء إلا أن يبتسم عندما يدرك أن أضواء هذه النجوم قد قطعت ملايين الملايين من السّنوات لكي تصل إلينا ونراها، إننا نرى ماضيها السّحيق، فالواقع هنا لا يتطابق مع الحقيقة، إنها سماء زائفة... وكل ما نراه أوهام، كانت حقيقةً منذ ملايين السنين، ربما تكون الآن قد انفجرت وتبعثرت إلى شذرات، وربَّما تحوّلت إلى عملاق أحمر أو قزم أبيض، يا لها من خدعة تنطلي علينا كما انطلى علينا الكثير من خدع السماء. كان الصمت يتسلَّل إلى المكان خفيةً كما الألم يتسلَّل إلى كتفي ببطء وثقل إلى أن يصعب احتماله، أطبق الصمت على الصمت إلا من صوت نقيق ضفادع ترسم دوائر تحملها الرياح بعيداً، وآلامي في ازدياد مع نباح كلب يأتي من قلب الصحراء يتردَّد صداه بخفوت يناجي الليل ويستدعي النهار. ليل «تاغيت» ليس كبقية الليالي، إنها لؤلؤة الصحراء أو إن شئت، فهي درَّتها النادرة على جبين الأرض، لا تنافسها في صحراويتها سوى «جانيت». إنَّه جمال الصحراء التي لا نعرفها لكنَّها تعرفنا. أخذ البرد والنعاس يتسرَّبان إليّ، والألم والصمت يطبقان عليّ، فلملمتُ ما تبقَّى مِني ونهضت إلى غرفتي حيث الدفء والحقيقة يقبعان بعيداً عن النجوم. * كاتب فلسطيني مقيم في أبو ظبي