عندما تتنقل بين دول العالم تقرأ الحراك الفكري العنيف الذي انعكس وما زال ينعكس بشكل ملحوظ على حركة الاقتصاد والسياسية أولاً ثم العلاقات الاجتماعية والأنشطة الثقافية والفنية، ولعل أبرز مثال يمكن أن يلحظ فيه السائح الحراك الأيديولوجي الشامل بعد روسيا الاتحادية دولة الصين الشعبية التي تبدلت أسواقها وتغيرت سياستها وتنوعت علاقاتها مع العالم ككل والرأسمالي منه على وجه الخصوص فهي بعد أن كانت شبه مغلقة تماما صارت في السنوات الأخيرة منفتحة بشكل واضح يعرفه الرجل العادي الذي يتجول في شوارعها ويرقب عجلة اقتصادية فضلاً عن القارئ والخبير، وفرنسا مثال آخر فهي اليوم وبناء على تغير المعطيات وتبدل الأحوال تفتح ذراعيها للعالم وتضطر اضطراراً وتحت وطأة الانفتاح العالمي الذي فرضه عصر العولمة أن تُشرك اللغة الإنجليزية في تعاملاتها وأن يتحدث الشارع مع السائح أياً كان باللغة العالمية الأولى «الإنجليزية» وأن تكتب اللوحات التعريفية والبرشورات الدعائية باللغتين الفرنسية والإنجليزية، مع أننا نعلم جميعا التشدد الذي كان من النخب والساسة للوقوف ضد أي غزو لغوي طوال السنوات الماضية من عمر هذه الكيان الحضاري العريق. إنني أعتقد أننا في هذا الظرف التاريخي الصعب لابد أن نقرأ التجارب العالمية ونبحث عن الجواب الدقيق للسؤال الحضاري الكبير: ترى لماذا تبدلت القناعات لدى النخب حيال العلاقة مع اللغة والثقافة والاقتصاد العالمي الغازي، هل هي الضرورة الحضارية أم التبعية الرأسمالية/ الليبرالية لدى قادة الفكر وربان المعرفة، أم أنها الإستراتيجية/ الانتقالية ولمرحلة محددة وفي ظل ضمان بقاء الثوابت كما هي، والتحرك في مساحة الهامش المسموح به والمعروف بدائرة المتغيرات؟، وعنا نحن من يملك الحق في تحديد الثابت والمتغير، وهل ثبوتية النص تستلزم قطعية الدلالة خاصة في الجوانب السلوكية/ المعيشية، وكم هي مساحة الالتقاء ونقاط الانفصال بين العادات المتوارثة والعقائد المتعبد بها لله عز وجل، أين هم من يمسكون بزمام الاجتهاد بمفهومه الواسع الذي يضم بين طياته ضروب الحياة المختلفة السياسية والاقتصادية والمعرفية والاجتماعية، و في عالم تموج فيه الصراعات وتلعب فيه المؤثرات الإعلامية الدور الأساس، والسيادة فيه والحاكمية كما هو معروف للقوة المعرفية والعسكرية والسياسية والاقتصادية بل وحتى الفكرية وهي وللأسف الشديد في دنيا الغير، والمستهلك والمستورد والمكبل بسياسة الإغراق ذات الدلالة الشمولية والواسعة هم نحن «خير أمة أخرجت للناس»، إن التأمل في الخارطة الكونية خلال سنواتها الأخيرة أول خطوات الشروع في بناء مشروع نهضوي إسلامي عالمي متكامل، فسقوط جدار برلين وحرب الخليج وتفتت الكيانات الشيوعية فكراً وواقعاً مؤسسات وأشخاص وأحداث الحادي عشر من سبتمبر وظهور تيار الغلو في بلد الوسطية والاعتدال المملكة العربية السعودية و... كل هذه الأحداث وما واكبها من كتابات وأفكار ونظريات وما صاحبها من تداعيات وتصريحات وتبدلات سياسية واقتصادية واجتماعية داخل الكيانات العربية ما زالت عاجزة عن إيجاد اللبنات الأولى لمشروع تنموي شامل ومتكامل سواء على المستوى القطري أو العربي أو حتى الإسلامي فضلاً عن الدائرة الإنسانية/ العالمية التي تحتاج هي الأخرى لجهود المفكرين المخلصين للحقيقة التي هي السبيل الأمثل لإخراج الجيل إلى بوابة الأمل وعنوان الخلاص. إن الحوار كمشروع وطني وعالمي لا يعدو أن يكون وسيلة للتحرك من أجل التغيير نحو الأفضل وبطريقة صحيحة ومضمونة العواقب والنتائج ولكن أين هي الآلية المثلى التي بها ينعكس الحوار واقعاً معاشاً وبيئة حاضنة للنهوض والتقدم والبناء؟. لنبدأ أولاً وقبل كل شيء من دائرة السلوك وليكن مشروعنا للعالم القيم الحضارية في الديانة الإسلامية ولنكن أول المطبقين لما نتوصل إليه من ركائز وقواعد هامة في هذا الباب، ولنتخلص من المشاريع الفردية التي لم ولن تغني من تخلف وليكن هناك مظلة يتفق عليها جمع من المفكرين والمختصين والمهتمين همها وشغلها الشاغل بناء نظرية نهضوية شاملة لعالمنا العربي ودولنا الإسلامية فضلاً عن وطننا العزيز المملكة العربية السعودية. وإلى لقاء والسلام.