على الرغم من بحثي المتواصل لأكثر من عشرين عاماً في مسببات تعثر العالم العربي في معظم مجالات التنمية والتحديث والتصنيع، إلا أنني ما زلت عاجزاً عن التمتع بتلك المعرفة، وما زلت متخلفاً عن وضع النقاط الصحيحة على تلك الحروف المستعصية. أخيراً ما زلت متعثراً بدوري في متاهات معوقات الثقافة المدنية وخصوصاً الثقافة السياسية العربية التي تجرعها الجميع منذ نعومة أظفارهم وغدت مصلاً مضاداً لكل ما يمكن أن يسهم في تحرك العالم العربي إلى الأمام. أقول هذا ومشاهد التعثر السياسي وما يتمخض عنها من أرق وضيق صدر ونفس تجول وتصول في ربوع الدول العربية التي تبنت النموذج الديمقراطي لتنميتها السياسية كالعراق والسودان تحديداً، لندع لبنان جانباً ولعبته الديمقراطية الطائفية الفردية من نوعها في العالم كله، فالديمقراطية على الطريقة اللبنانية حق مكفول للبنان وللشعب اللبناني وحده دون غيره من شعوب العالم. الديمقراطية في السودان ما زالت ديمقراطية عرجاء إن لم تكن ديمقراطية مشوهة بالكامل بعد أن عانت من حروق الصراع على السلطة وحرارة عشق البقاء فيها. والانتخابات السودانية الأخيرة أثبتت حجم الخلاف الكبير على كل مفردة من مفردات الديمقراطية الحقيقية بين كافة الفرقاء السياسيين حتى فيما يتعلق بموعد تاريخ عقد الانتخابات وآليات تأجيل الموعد. أما العراق فلا يزال متعثراً في تحركه السياسي الديمقراطي كما يقولون بعد أن أعلن الجميع عن أنهم الفائزون في الانتخابات الأخيرة. فرئيس الوزراء نوري المالكي يرفض التخلي عن السلطة هكذا طواعية واختيار، لوجود بارقة أمل لبقائه في السلطة. وإياد علاوي الذي حصل ائتلافه (العراقية) على أصوات ناخبين أكثر من الأصوات التي حصل عليها ائتلاف المالكي (دولة القانون) يحاول بشتى الطرق تشكيل حكومة عراقية جديدة لكن دون جدوى لإصرار المالكي على البقاء في السلطة. هي بالفعل أحجية السلطة في العالم العربي، وفي بعض دول العالم الثالث أيضاً، وهي أحجية تاريخية متأصلة ومترسخة في الجينات العربية تتناقلها الأجيال ويصعب استئصالها بأي وسيلة من الوسائل المعروفة. فالثقافة السياسية العربية، التي هي نتاج طبيعي للثقافة المدنية العربية، تتعارض تماماً مع مفاهيم الديمقراطية السياسية الغربية التي تفرض ضرورة وجود المنافسة الشريفة بعيداً عن العصبية والمحسوبية، وتفرض حتمية الإنتخابات النزيهة بعيداً عن التزوير والتلاعب والوساطات والآراء والمشاعر والعواطف الشخصية، أخيراً تفرض تخلي المهزوم عن السلطة طواعية واختيار بنفس مطمئنة للمنتصر الذي بدوره يحترم المهزوم ويحفظ له حقوقه ولا يقدم على تصفية أي حساب من الحسابات السابقة معه أو بالطبع مع اتباعه، لهذا يوجد في العالم العربي (وفي بعض دول العالم الثالث) أنظمة سياسية جمهورية بالاسم لا بالفعل. المشكلة بالطبع لا تكمن في النظام الديمقراطي ذاته، وبذات المنطق لا تكمن في الثقافة السياسية العربية بذاتها، فالنظام الديمقراطي نظام غربي ولد من رحم البيئة الثقافية السياسية والمدنية الغربية وترعرع فيها وتخرج منها بعد تعديلات وتصحيحات كثيرة عبر التاريخ حتى وصل إلى ما وصل إليه اليوم سواء بشكل نموذجه الرئاسي أو البرلماني بمعنى أن الديمقراطية نظام سياسي غربي مئة بالمئة تم تفصيله على الشخصية والعقلية الغربية للشعوب الغربية. أما الثقافة المدنية وبالطبع الثقافة السياسية العربية المتمخضه عنها، فهي ثقافة إنسانية تختلف تماماً عن الثقافة الغربية، وبذلك فإن ما تمخض عن الثقافة السياسية العربية من نماذج سياسية للحكم عبر التاريخ العربي كله لا يمكن أن يعكس أياً منها النموذج السياسي الغربي. هذا ما يؤكده التاريخ، وهذا ما تؤكد عليه الحقائق الماضية والحالية فعلام إذن الهوس والجنون بالديمقراطية؟ وهل حقاً هي النظام الأفضل للحكم في العالم العربي؟ أم أن النظام السياسي للحكم هو نتاج للبيئة الأفضل للحكم في العالم العربي؟ أم أن النظام السياسي للحكم هو نتاج للبيئة الثقافية الإنسانية التي أخرجته ولا زالت تخرجه بالطريقة المعروفة والمعهودة والمقبولة التي يعيها ويقبل بها الجميع أو الغالبية العظمى؟ هل ينفع التقليد السياسي الأعمى؟ أم أن مهالكه ومساوئه أخطر من محاسنه؟ أخيراً هل من الأفضل لنا أن نعكف على تطوير ما لدينا من أنظمة سياسية بشكل يتلاءم مع احتياجاتنا ومطالبنا وهويتنا وشخصيتنا؟.. الأسئلة ما زالت في حاجة لأجوبة وإن كانت تلك الأجوبة بديهية لا يفهمها إلا العقلاء والحكماء فقط.