روى عبدالله بن عمر رضي الله عنهما قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا تمنعوا إماء الله مساجد الله».. وفي رواية «ائذنوا للنساء بالليل إلى المساجد».. فقال ابنه معترضاً: إذا يتخذنه دغلاً (أي مكاناً لاقتراف المفاسد).. وقال: والله لنمنعهن.. فوكزه عبدالله في صدره واشتد عليه غضبه وقال: أقول قال رسول الله.. وتقول لا! وقاطعه إلى آخر حياته. إذن عبدالله بن عمر يفارق ابنه لأنه انتصر لرأيه المتشدد المشكك بالمرأة.. والمزايد على شريعة الرحمن التي جاء بها المصطفى صلى الله عليه وسلم.. بالخروج عن وسطية الإسلام الذي نظم علاقة المرأة بالمسجد وحقها بالصلاة فيه بكل الأوقات إذا شاءت ذلك. كلنا سمع أيضاً بالحديث الذي رواه البخاري عن الثلاثة الذين جاؤوا يسألون زوجات النبي صلى الله عليه وسلم عن عبادته.. فلما أخبروا عنها قال أحدهم: أما أنا فإني أصلي الليل ولا أنام.. وقال آخر: وأنا أصوم الدهر ولا أفطر.. وقال آخر: وأنا أعتزل النساء فلا أتزوج أبداً.. فجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم إليهم فقال: «أما والله إني لأخشاكم لله وأتقاكم له.. ولكني أصوم وأفطر.. وأصلي وأرقد.. وأتزوج النساء.. فمن رغب عن سنتي فليس منّي». هذا الحديث الجامع المانع يوضح بجلاء أن خشية الله سبحانه وتقواه لا ترتبط بكم العبادة أو كيفِها.. وإنما بالالتزام الدقيق بما شرعه الله وما بينه رسوله في سنته دون زيادة أو نقصان.. فالأصل في العبادة الاتباع لا الابتداع.. والتوقيف لا التحريف.. وقد قام هذا الدين على الوسطية والاعتدال.. لا على الغلو والتطرف.. والتقوى تكون بالتزام الشريعة كما أنزلت.. فحد العبادة أن نعبد الله تعالى ولا نشرك به.. وحدها أيضاً أن نعبده بما شرع.. فالحد الأول ينجي من الشرك.. والحد الثاني ينجي من البدعة. المزايدون كثر.. وقد ضل سعيهم وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعاً بظنهم أن تحريم المباح والتشدد في الأحكام يشكلان سدا منيعاً أمام الفتنة والفساد والانحلال. رغم أن رسولنا الكريم بين لنا أن الزيادة في الدين كالنقص فيه.. كلاهما مخالف للشرع.. وأن من يفعل ذلك ليس من دين الله في شيء. الإسلام اليوم يواجه ثقافات عالمية تبنت قيمه ومفاهيمه عبر تجارب إنسانية طويلة ومضنية.. وأخذت تروج لها في إطارات متعددة ليس من بينها الإسلام.. حتى سادت في عالم أصبح كالقرية الصغيرة.. وإذا لم نرجح لوسطية الإسلام وقيمه ومفاهيمه الأصيلة.. وأصررنا على سياسة التطرف والتشدد في الأحكام باعتبار الوسطية كما تصورها ابن عبدالله بن عمر دغلاً للتساهل والتحلل والفساد.. فسنكون نحن من ألد أعداء دين الوسطية والتيسير.. ذلك قتلنا الميزة التي تجذب الناس لاعتناقه وتجعله الدين الأقوى أمام كافة الأديان والثقافات بسياسة نظنها تحميه وهي تقلل من شأنه في عيون البشر. مبادئ التحوط الشديد وسد الذرائع تجرد الإسلام من وسطيته.. وتنمي الرغبة في إقامة المتاريس ظناً بأنها تحمي الدين.. ويزداد التشدد من جيل إلى جيل بشكل يدعو إلى تحريم ما أحل الله والتضييق على الناس.. وعلى علمائنا تقع مسؤولية توجيه الناس بما حكم الله دون تشديد لتحقيق الوسطية.