وضع الخليفة الأموي معاوية، أسساً مبسطة لمدار العلاقة بين السلطة ومحاولة الخروج عنها؛ فقال يصف نفسه: إني لا أضع سيفي حيث يكفيني سوطي، ولا أضع سوطي حيث يكفيني لساني، ولو أن بيني وبين الناس شعرة ما انقطعت أبداً، فقيل له: وكيف ذلك؟ قال: كنت إذا مدوها أرخيتها، وإذا أرخوها مددتها. لم تكن شعرة العلاقة إلا ذلك الخط الرفيع بين السلطة ومنطق الحوار والموضوعية، لكن عندما تخلى ابنه يزيد عن تلك الرؤية العميقة حدثت الكارثة في البيت الحرام، وتم استباحة مدينة الرسول عليه أفضل الصلاة والسلام. ومهما اختلفت الفرق والمذاهب الإسلامية في شرعية خلافة معاوية إلا أنه كان من دهاة العرب في السياسة؛ فقد يعي في أي موقف كان يرخيها، وإلى أي حد كان يشدها؟، فصراعه مع القوى المختلفة والصاعدة، لم تكن تحكمه فقط علاقة مجردة من الموضوعية والعقلانية؛ فقد كان يحرسها بعوامل تفوق القدرة على امتلاك سيف السلطة، وأيضاً على لسان خطابها الشرعي ضد الخارجين عن سلطته؛ لذلك كان يقلل من سفك الدماء، ويحاول قدر الإمكان أن يعالجها بالحكمة... هنا حسب وجهة نظري، تقف حكمة الخليفة معاوية، كأول محاولة لرسم مدار العلاقة بين صراع القوة والتفوق، وبين مثاليات الأفكار الدينية في ذلك الوقت، ومحاولات الخروج على الدولة عبر تأويلات جديدة، ومن خلال مصالح الأفراد والجماعات في المجتمعات المختلفة. منطق الخطورة في أنساق أهم النظريات الفلسفية الحديثة أن الجذور الفكرية والثقافية لمثل هذه النظريات والأفكار يكمن في فلسفات تذهب إلى أن التناقض والصراع هما أساس التطور والتقدم، وأن السيف أمضى تأثيراً من تبريرات خطاب فلسفي أو ثقافي، كما هو الحال في فلسفة النشوء والارتقاء والبقاء للأقوى عند داروين، وفلسفة القوة عند نيتشه، وفلسفة الصراع الطبقي عند ماركس.. إلخ، ولم تكن فلسفات الصراع إلا صوراً لواقع متكرر من التاريخ البشري، والذي حكم أغلب فتراته منطق القوة المجردة. تبقى دعوات الموضوعية والعقلانية والأخلاق وسائل تذوب في أول مواجهة مع القوة، وظلت دعوات المثال والأخلاق النخبوية مساراً خاضعاً لسيف التفوق، والذي يرفض عادة أن يجلس مع الأقل على مائدة تحكمها مثاليات الأخلاق والموضوعية إذا لم يسجل التاريخ إلى الآن، انتصاراً تصاعدياً ومجرداً من عوامل القوة؛ لأن دعوات الإصلاح والأخلاق والمثالية ظلت مسجونة في أغلب مراحل التاريخ الإنساني، وفي أحيان أخرى ظلت طيفاً عابراً في أحلام فلاسفة المثالية ودعاة اللا عنف.. ولم تصل دعوات اللاعنف والسلام إلى مبتغاها إلا بدعم قوة الجماهير؛ فالوعي بأهمية السلام ضد الطغيان قاد الجماهير في الهند إلى التغيير وإلى مواجهة قوة الاستعمار. تستمد أطروحات التفوق والرغبة في السيطرة إلى عناصر تتميز بها عن الآخرين؛ فقد يكون عنصر التفوق العرقي، وهو ما استخدمه هتلر في وضعه العرق الآري في مواجهة العالم، أو حضارياً كتلك التي استخدمها الرئيس جورج بوش الابن في تقسيم العالم بين الخير والشر، وحتمية الصراع بين عناصر الحرية والتكنولوجيا والديموقراطية وبين قوى التخلف والاستبداد والأصولية أو دعوة لنصرة كلمة الله - عز وجل - على أرضه، كما تطرحها جماعات الإسلام الجهادي. يعد التناقض وازدواجية المعايير في أطروحات قوى التفوق الغربي أكبر محرّض لتكرار حلقات الصراع في المنطقة العربية، وإلى تجدد دورات التاريخ العصبية؛ فالمصالح الغربية لا تزال مقدمة على مصالح شعوب المنطقة؛ فبقدر ما يفخر الغرب بحريته وديموقراطيته داخل أراضيه، ظل يعامل الآخر العربي بكل استبداد وعنجهية وعنف، وراح يفرض رغباته على قرارات المؤسسات العالمية من خلال فلسفة القوة، وذلك من أجل صنع قرارات أحادية وتطبيق استراتيجيات تخدم مصالحه المنتشرة في جميع أنحاء العالم، كذلك رغم تعاليم الإسلام المقدسة التي تحرم قتل النفس البريئة بغير حق، والحث على الرفق بالأطفال والنساء وغير المعتدين إلا أن بعض المسلمين أيضاً لا يزال يبرر شرعية استعمال العنف ضد الغرب، وشرعية العمل الدؤوب من أجل الحصول على أسلحة أكثر تدميراً، وذلك من أجل مواجهة النفوذ الغربي الذي لا يعترف بأطروحات السلام والعقلانية، ولا يفهم إلا لغة السلاح والعنف المضاد، وهو ما يشجع على استمرار العمل الجهادي والمقاومة في المنطقة. ارتفعت الأصوات مؤخراً في كيفية منع قوى الإرهاب من الحصول على الأسلحة النووية، والتي قد تجبر الغرب على الجلوس في موقف الند أو في الدخول إلى حرب عالمية لا يمكن في أي حال التنبؤ بعواقبها، ونحن في المرحلة الحالية في حاجة ماسة إلى تطوير أبعاد حكمة شعرة معاوية، وفي أن يرخي الغرب تلك الشعرة إذا شدتها القوى المتطرفة، وأن يعود إلى ممارسة الضغط على الدولة الصهيونية من أجل فرض منطق خلو المنطقة من الأسلحة النووية، ومن احتمال الحروب المدمرة في المستقبل، وأن يستخدم جبروته لفرض السلام، ويجعل من العقلانية شعار القرن الجديد لمواجهة القوى التي تؤمن أنها ضحية لعنف الغرب وعملائه في دولة إسرائيل.