شدتني بفنها وشغلتني بأحداثها رواية (الخرز الملون) للأستاذ محمد سلماوي الأديب المصري العروبي المعروف صاحب الأعمال المتعددة في المسرح والرواية والقصة القصيرة. فقد دهشت حين علمت أن هذه الرواية هي أول رواية مصرية تتعرض بشكل مباشر لمأساة فلسطين رغم أنها نشرت سنة 1990م. ويبقى الأهم هو الفكرة التي عبرت عنها هذه الرواية والشكل الفني الذي تم التعبير عنه من خلالها أما الفكرة فإن محمد سلماوي أراد أن يؤكد -بعد عدة انتكاسات- من خلال تصويره لشخصية نسرين حوري.. كانت ولا تزال وستظل جزءاً أساسياً من نسيج الحياة السياسية والاجتماعية العربية وحلماً سيظل يؤرق الوجدان العربي والإسلامي حتى يتحقق وقد تحكمت هذه الفكرة في الشكل الفني الذي اصطنعه موضوع الرواية مما يجعل ظاهرة دور المضمون في تشكيل الوعاء الفني للعمل الأدبي موضوعاً يستحق الدراسة في أعمال محمد سلماوي. ونستطيع أن نطلق على هذه الرواية رواية زمانية أكثر منها مكانية؛ إذ إن عوامل الزمان فيها تشكل الأعصاب الدرامية لأحداثها جميعاً؛ فالزمان هو السماء الكبير التي تحتوي المكان والشخصيات، فقد أقام محمد سلماوي روايته على خمسة أزمنة خرجوا من تاريخ فلسطين ومصر وبالتالي الأمة العربية كلها، ويمثل كل زمن من هذه الأزمنة يوما واحدا يسبق يوم الذروة في الحقبة الزمنية التي يمثلها الشكل الفني وهكذا كان اليوم يوم 14 مايو 1948م وهو اليوم السابق لإعلان قيام دولة إسرائيل في 15 مايو واليوم الثاني هو يوم 22 يوليو 1952م وهو اليوم السابق لإعلان ثورة 23 يوليو، وهكذا حال بقية الأيام الخمسة والذكاء الدرامي الذي يمثله هذا العمل في رأيي يكمن في أن الروائي لو اختار أيام الذروة وهو يوم قيام دولة إسرائيل ويوم ثورة 23 يوليو لما أصبح للزمان أهمية درامية ولا للحدث تأثير كالذي رأيناه في حال اليوم الذي يسبق الحدث الكبير. ففي يوم 15 مايو أعلنت دولة إسرائيل وبدأت مرحلة زمنية جديدة والشيء نفسه بالنسبة ليوم 23 يوليو لهذا عمد محمد سلماوي بذكائه الفني ووعيه السياسي أن يكثف أحداث كل مرحلة زمنية في اليوم قبل الأخير منها ومن المعروف أنه ليس حقيقة فنية فحسب بل حقيقية منطقية أيضاً أن اليوم الذي يسبق وقوع الحدث هو يوم بلوغ التوتر ذروته أما يوم وقوع الحدث فهو يوم الانفراج -على المستوى الفني على الأقل- بنهاية مرحلة وبداية مرحلة. وهكذا استطعنا أن نتابع -بشغف- قصة الفتاة الفلسطينية نسرين حوري ابنة بشير حوري رئيس بلدية يافا وظروف خروجها وأسرتها إلى مصر قبيل النكبة مع الآلاف من الفلسطينيين الذين احتضنتهم مصر العروبة والإسلام، وعشنا من خلال اليوم الذي سبق إعلان قيام دولة إسرائيل تفاصيل المأساة التي عاشها الشعب الفلسطيني في تلك المرحلة ثم رأينا من خلال اليوم الذي سبق ثورة 23 يوليو كيف دخلت نسرين حوري في نسيج حياة المجتمع المصري، وشهدنا تشريحاً اجتماعياً وسياسياً من خلال الطبقة الراقية والسياسية والمثقفة في هذا المجتمع والملابسات التي أدت إلى تبرير ما حدث في يوم 23 يوليو وتحت عنوان (جنة عدن) تعيش أحداث اليوم الثالث 21 مارس 1958م والوجود الفلسطيني فيما شهدته مصر والأمة العربية والمد القومي العربي الذي بلغ ذروته بقيام الوحدة بين مصر وسوريا وبروز شخصية جمال عبدالناصر على مسرح السياسة العربية كزعيم قومي تعلقت به الآمال في تحقيق النصر على إسرائيل وتحرير فلسطين..!! ثم نشهد في اليوم الرابع تحت عنوان (شراع بلا ريح) 19 ديسمبر 1976م التحول الكبير في السياسة المصرية بقيادة أنور السادات من خلال أحداث الحياة الشخصية التي تعيشها نسرين حوري في القاهرة وعملها الصحفي بجريدة الأهرام، وقد بدت نسرين من خلال تلك الأحداث وكأنها فلسطين تمشي على قدمين في قلب مصر. وقد أحزنني أحداث اليوم الأخير (الخروج من اللعبة) 20 أبريل 1980م التي انتهت بموت نسرين حوري منتحرة بسقوطها من فوق سطح مستشفى للأمراض العصبية والنفسية بالقاهرة. تمنيت لو غير المؤلف هذه النهاية المأساوية لنسرين حوري لتتفق مع الرؤية المتفائلة التي يجب أن ننطلق منها في النظر لقضية فلسطين، ولكن لعل الظروف السياسية الصعبة والقاسية التي كانت تمر بها قضية فلسطين والأمة العربية سنة 1990م وراء هذه النهاية، والرواية تستحق وقفة فنية وفكرية أطول ودراسة لأهمية عنصر الزمن الدرامي الذي أصبح مسيطراً - بقدرة عجيبة - بحيث أصبح المكان عنصراً في نسيج عناصر الزمن الدرامي، وعجبت كيف أغفلت السينما المصرية مثل هذا العمل الفني الوثائقي الرائع، وهو عمل أحوج ما تكون أمتنا إليه في هذه المرحلة المضطربة التي تتم فيها محاولات وأد قضية فلسطين وتذويبها عبر سلسلة من حلقات التآمر الدولي عليها. [email protected]