وداريت كل الناس، لكن حاسدي مداراته عزت، وعز منالها وكيف يداري المرء حاسد نعمةٍ إذا كان لا يرضيه إلا زوالها؟ سئل أعرابي من بني عبس جاوز عمره المائة والعشرين عن سر طول عمره مع تمتعه بالصحة، فقال: تركت الحسد فبقيت. ويقول علي بن أبي طالب -رضي الله عنه-: الحاسد مغتاظ على من لا ذنب له. ويقول الفقيه أبو الليث السمرقندي رحمه الله: (تصل الحاسد خمس عقوباتٍ قبل أن يصل حسده إلى المحسود: أوّلها: غمٌ لا ينقطع. وثانيها: مصيبةٌ لا يؤجر عليها. وثالثها: مذمةٌ لا يحمد عليها. ورابعها: سخط الرب. وخامسها: يُغلَق عنه باب التوفيق). والحسد أول ذنب عُصي به الله، حيث حسد قابيل أخاه هابيل حين لم يقبل الله صدقته، فأدى ذلك إلى قتله لأخيه، وهي أول جريمة في التاريخ. وليس أشد أكلا للحسنات من الحسد، لأنه سخط على الله. ولاشك أن الحسد مرض نفسي خطير، إن لم يعالجه صاحبه فإنه يستشري ويتحول لسرطان يكاد يقتله، بل إنه يؤثر على الجسد كتأثيره على النفس تماما. فتكثر فيه الأمراض الغريبة. وقديما قيل (صحّة الجسد في قلّة الحسد). ويقول فيكتور بو شيخ: (إن الحسد والغيرة والحقد آفات تُنتج سموما تضر بالصحة وتقضي على جانب كبير من الطاقة والحيوية اللازمتين للابتكار والعمل). والحاسد قلق دوما، متوتر غالبا، ناظر لما في أيدي الناس، مستكثر ما لديهم، مقلل لجهودهم، ساخر منها ناقد لهم. ولا يهدأ وهو يراهم في حبور وسعادة، ولا يكتفي بما هو فيه من خير فيشغل نفسه بما عنده، بل تراه متحينا فرصة التشفي بما يصيبهم لتبريد غليان نفسه، فلا يقنع بواقعه ولا بما رزقه الله، ولا ينظر لمن هم أقل منه فيحمد ربه، بل ينظر لمن هم أكثر منه مالا وصحة ونجاحا فيشكو وضعه ويسخط على ربه. والله أعلم بما يصلح حاله. ولئن كانت بعض النفوس مجبولة على الحسد؛ حيث لا يخلو جسدٌ من حسدٍ، فالكريم يخفيه، واللئيم يبديه، إلا أن كثيرا من الناس ينجرف به تجاه البغي والظلم والعدوان والتجني. حيث إن ذلك يشعره بالتفوق، ولا يكاد يردعه الإيمان بالقضاء والقدر ولا بتقسيم الأرزاق. والحسد مصدره الغيرة التي تتوقد فيتولد عنها هذا المارد الذي يُتعب البشر ويدمرهم نفسياً ويبعدهم عن قلوب الناس، وعن رحمتهم. كما ينتج عن الحسد: الحقد والكراهية والسخط التي ينجم عنها الشعور بالنقص، وغلظة القلب، وتدني قيمة الحب، والإحباط والفشل، وكثير من الأمراض النفسية. وجزء من الحسد فطري وبعضه مكتسب، فقد يكون أحد أسبابه قلة الإيمان، وعدم تهذيب النفس وحملها على القناعة، والرضا بالواقع، والركض وراء المادة، وحب التسلط. كما قد يكون من مسبباته اختلال التربية الأسرية أو قسوة المعيشة وتدني المستوى المادي. ويكثر الحسد بين النظراء والأقارب والأصدقاء، وهؤلاء الناس ممن يتعايش معهم المرء ويدخلون بيته أو يشاركونه عمله أو حياته ويطّلعون على أحواله، ومن الصعب اكتشاف ما تنطوي عليه نفوسهم إلا بالتعامل معهم، وحصول مواقف تدلل على تغلغله في قلوبهم. ولا ريب أن عظمة عقلك تخلق لك الحساد، وعظمة قلبك تجلب لك الأصدقاء. فاجعل صدرك واسعا لاحتواء حسادك وتحمّل ضريبة نجاحك. www.rogaia.net [email protected]