منذ خمسينات القرن العشرين الماضي، وحتى اليوم نوعا ما، سمعنا الشيء الكثير من الحديث الرسمي والشعبي عن أن الاستعمار القديم يعد العامل الأول الذي تسبب في ضعف وتخلف الأمتين العربية والإسلامية. وما أن خفت تلك النغمة إلى حد ما بعد أن حصلت جميع الدول الإسلامية على استقلالها السياسي وانفرادها بصنع القرارات حتى حلت محلها نغمة الاستعمار الحديث (الاستعمار الاقتصادي) أو الإمبريالية كما كان يحلو للبعض تسميتها، كسبب رئيسي لبقاء حال التخلف في الأمتين العربية والإسلامية. على تلك النغمتين السياسية والاقتصادية حركت أوتار مشاعر الشعوب الإسلامية وتلاعب البعض في وعيها وفي ثقافاتها المدنية والسياسية بشكل خطير وضعها في حال تجييش كلي في الطريق الخطأ وليس في الطريق الصحيح. نعم تم تجييش الأمة برمتها للعداء وليس للبناء والاعتماد على الذات وتجديد الواقع وتحديثه بما تتطلبه حركة الحياة في ذلك القرن أو بالطبع في القرن الحالي. وعلى تلك النغمتين، وأضيف لها أنغام عقدية أخرى، عاش العالم الإسلامي في حال صراع مرير مع الآخرين دون أدنى محاولة لإصلاح الذات وتقييمها ومن ثم تقويمها لتسلك الطريق العلمي والتعليمي والتقني الصحيح الذي يضعها على طريق المنافسة مع العوالم الأخرى وليس في طريق الصراع والمواجهات. لن أتحدث عن الفتن السياسية والمذهبية التي عصفت بالعالم الإسلامي منذ عهد الخلافات السياسية التي أفضت إلى الفتنة الكبرى، وإنما الحديث يتركز بشكل كلي وبمنظور تحليلي شامل على ما حدث للعالم الإسلامي تحديدا، قبيل انهيار السلطنة العثمانية، من ضعف وتفكك وتخلف وضياع، ومن ثم في العقود التي تلت ذلك في زمن الاستعمار القديم ومن ثم الحديث. فما اتخذ من قرارات وما حدث من تطورات لم تسهم في تحرك الأمة خصوصا على الجانب العلمي والتعليمي، وإنما ساهمت في بقائها على ما هي عليه. لكن يبقى السؤال كيف غيب العلم والمؤسسات العلمية والتعليمية الفاعلة عن غالبية المجتمعات الإسلامية؟ ولماذا غيب بذلك الشكل؟. ربما كانت البداية من حيث بدأ السابقون، رغما عن معرفة الغالبية العظمى من أن البداية كان من المفترض أن تكون من حيث انتهوا ولو على الأقل. فالفجوة الثقافية والحضارية خصوصا بشقها العلمي والتعليمي لا تحتمل المضي في ذات المسار الماضي الطويل الذات بات في حكم الماضي التليد. الملفت للنظر أن الثقافة المدنية في العالم الإسلامي (تواكبها الثقافة السياسية) لم تتحرك من مواقعها الماضية، وبقيت في حال خمول ودعة على ما هي عليه، هذا إذا أخذنا بتعريف الثقافة بأنها «كل ما يتعلق بفكر الإنسان في مجتمع ما من المجتمعات من علوم وفنون وأدب ومدارك وقيم تم توارثها من جيل لجيل». وربما يكون الحال أكثر دقة إذا ما أخذنا بتعريف الحضارة بأنها «كل ما يتعلق بسلوكيات المجتمعات الإنسانية من عادات وتقاليد وأخلاقيات ومبادئ أيضا يتم توارثها عبر الأجيال». هنا لربما يمكن القول أن ثقافة الفردية ومعها ثقافة الصرامة إلى حد العنف والشدة في تنشئة الأجيال الشابة لعبت دورها في الاستمرار والتواصل بين الأجيال كعامل رئيسي من بقاء الحال على ما هو عليه ولتمثل الحاجز الأكبر أمام حرية التفكير والتعبير والإبداع. عزز من هذا الحال دور المؤسسات التعليمية والتربوية في الحفاظ على عامل التلقين والحفظ والتوجيه المباشر عوضا عن إحلال عامل التفكير والإبداع والتحليل الموضوعي. هل يعني هذا أن الثقافة في هذا الواقع الذي نتعامل معه ثقافة متشددة غير مرنة؟ أم أنها ثقافة مغلقة غير متفتحة؟ أم انها الاثنتين معا؟. لن نجيب مباشرة على هذه التساؤلات بيد أن الإحساس بأن الواقع الحالي لا يتلاءم إطلاقا مع المأمول أو المتوقع لمجتمع ما من المجتمعات، ناهيكم عن أمة بأسرها، لكفيل بمحاولة جلد الذات كي نفيق قبل فوات الأوان، ومن ثم لندفع حركة التفكير العلمي والواقعي الصحيح إلى الأمام، بالطبع إلى الأمام الأفضل ليس وحسب لإشباع نهم التساؤلات الضخمة، لكن أيضا للتوصل إلى إجابات مقنعة لعلامات الاستفهام والتساؤلات الضخمة تلك، بهدف تجنب البقاء في ذات الموقع في المستقبل. سواء بسبب الواقع الماضي المشار إليه، أو الواقع الحالي الذي يعد امتداد له، يستحيل على المرء ألا يفرض ذاته بل وعلى خيار ذلك المجتمع كل المجتمع حتمية التفكير في المسببات والعوامل التي أودت إلى فرض واقع إنساني متخلف وأليم على معظم أن لم يكن جميع دول وشعوب العالم الإسلامي. السؤال هل للثقافة المدنية ومن ثم للثقافة السياسية دور في تقدم الأمم أم تخلفها؟ قد لا يختلف عن السؤال المعهود البيضة أولا أو الدجاجة أولا، على الرغم من أن الجميع على علم تام بأن الله تعالى خلق الإنسان والحيوان والنبات أولا ومن ثم ما ينتج، ينجم، أو يتمخض عنها جميعا ثانيا.