من المسلَّمات الغائبة أنه ما من أحد إلا راد ومردود عليه إلا أولي العزم من الرسل فيما عُصموا فيه، وقد يواجَهون فيما يجتهدون فيه مثلما فعل عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في مواقف كثيرة أشار إليها القرآن وحفظها التاريخ؛ ذلك أن الرسل لا ينطقون عن الهوى. وتذكر هذه المُسَلَّمة والقبول بها مؤذنان بتقبل الخلاف والنقد بقبول حسن، وحمل النفس على قبول الحق. وما من أحد إلا وهو مرتهن لمرحلته، ومنطلق من أنساق عصره الثقافية، والناس يكدحون ما عاشوا ليلاقوا جزاء عملهم، وفي الحديث: (كل الناس يغدو فبائع نفسه فمعتقها أو موبقها)، والغدو يكون حسيا ينطلق فيه المرء للكسب المادي أو المعرفي، ويكون معنوياً كانطلاق الأفكار والتأملات في الظواهر الكونية والتحوُّل من إيمان الوجادة الأبوية إلى إيمان القناعة والاطمئنان. وقَدَرُ قادة الفكر والإصلاح والتجديد أنهم في زمن انفجارَيْن هما أخطر من الانفجارات (النووية): - الانفجار المعرفي. - ثورة الاتصالات. فكل حدث علمي أو فكري أو كارثي يقع في أي بقعة من بقاع العالم يكون خلال دقائق معدودة في متناول كل متابع، وكل حدث يحمل معه شفراته ومفاتح غياهبه، ولم يعد هناك مكان للتسليم المطلق ولا للرفض المطلق، وليست الإشكالية في تعدد الخيارات وكثرة بنيات الطرق على حوافي الصراط المستقيم، ولكنها في التدبير الماكر من أساطين الملل والنحل، والقدرة الفائقة على وسائل الجذب والإغراء، وتنامي الجهل المركَّب. فالذين يخوضون معترك الفكر والفن والدين والسياسة ويتصدرون القول في ذلك يجهلون أبسط قواعد ممارساتهم، ويجهلون أنهم يجهلون، ومن ثم لا مكان لديهم للتزوُّد بالمعارف، ولا استعداد عندهم للخلوص من الخوض في عويص المسائل. وما نشاهده ونعايشه مصداق لإخبار المصطفى - صلى الله عليه وسلم - بذهاب العلم وتفشي الجهل وتصدُّر الجهلة. والواقع الفكري المعاش مليء بدعاة السوء الذين أكد المصطفى أنهم على أبواب جهنم، وليس شرطاً أن يقف الداعية بلحمه ودمه وصوته وسوطه، ولا أن يعرفه الناس بسيماه، وإنما هي كلمة يرسلها أو عبارة يحبرها أو صوت منكر يحمله الأثير؛ فكل تلك الوسائط تترك من الأثر فوق ما يتركه التلوث البيئي، والمشاهد كافة مليئة بِحَمَلَةِ المذاهب والاتجاهات والأفكار التي تنساب كالخدر من حقولها لتكون للمتلقي عدواً وحزناً. وكيف لا تكمن الخطورة في المسموع والمشاهَد والمقروء ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - حين رأى بيد عمر بن الخطاب ورقة من التوراة نهره قائلاً: «أفي شك أنت يا ابن الخطاب؟»، وهذا الزجر لا يعني العلماء الذين نذروا أنفسهم لتصور الفكر المضاد. والممتلئون إعجاباً بآرائهم واغتراراً بأنفسهم يأنفون من المراجعة ويفرون من النقد، ويتهمون المتسائلين والمترددين بالتحجر والتعصب، ويرون أنفسهم وما يتفوهون به فوق المساءلة والنقد، وهذه الحساسية المفرطة مؤشر ضعف في النفوس ونقص في المدركات وضحالة في التجارب.. والعلماء المتبحرون لا يجدون غضاضة من النقد، وقد يتعمدون تبادل الاحترام في ظل الاختلاف في الآراء، وهذا (الشافعي) - رحمه لله - يؤكد عدم تأثير الاختلاف على العلاقات الشخصية، وكيف لا يتقبل العقلاء المراجعة ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - ثناه القرآن الكريم عن بعض ما يريد، وعاتبه على بعض ما فعل، وعتاب الله لرسوله منثور في آي الذكر الحكيم وسوره؛ ليكون مثبطاً ومثبتاً لمن أخذتهم العزة بالإثم وعذَّبتهم الأنفة الزائغة. وعتاب الله لرسوله لا يتنافى مع العصمة؛ لأنه عتاب توجيه وليس عتاب تخطئة؛ فالله يقول لرسوله - صلى الله عليه وسلم -: )وَلاَ تُجَادِلْ عَنِ الَّذِينَ يَخْتَانُونَ أَنفُسَهُمْ(، ويقول: )وَلاَ تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُم(، ويقول: )مَا كَانَ لِنَبِي أَن يَكُونَ لَه أَسْرَى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الأَرْضِ(، ويقول: (عَفَا اللّه عَنكَ لِمَ أَذِنتَ لَهُمْ)، ويقول: (وَلاَ تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِّنْهُم مَّاتَ أَبَدًا وَلاَ تَقُمْ عَلَى قَبْرِهِ)، ويقول:(وَلَوْلاَ أَن ثَبَّتْنَاكَ لَقَدْ كِدتَّ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئًا قَلِيلاً).. ومواقف أخرى (كإلقاء الشيطان في أمنيته) و(قصة زواجه من زينب) و(اعتزاله لنسائه) و(تحريمه ما أحل الله لمرضاتهن) و(قصة ابن أم مكتوم) ودون ذلك مراجعات الصحابة له وأخذه ببعض ما يرون. كل ذلك يدل على أن المراجعة مشروعة، والاختلاف قائم، وليس لشيء منهما أي ارتباط بمكانة الإنسان أو مبلغه من العلم، كما أن المراجعة لا تدل على الخطأ، ولكنها تدل على تباين المشارب وتفاوت العقول ومدى مناسبة الآراء للمرحلة المعاشة؛ فما هو صالح اليوم قد لا يكون بالضرورة صالحاً للغد، وكل مخلوق مرتبط بزمانه وما يقتضيه، والجدل الثائر بين علماء التفسير والأصول حول جريان النسخ في القرآن ومجالاته دليل واضح على النظر في أحوال الناس وتقلبات الأوضاع. ولو رحبت الصدور للمساءلة والنقد لما أُتيح للخطأ أن يتأسس ولا للجنح أن تشيع، ولو عرف كل إنسان قدره ومبلغه من العلم لصينت الشرائع واستقام أمر الناس، وإذا ذهب الحياء والخوف تقحم العزَّل مضامير اللزز على جياد عجاف، والذين يحملون هموم أمتهم يمارسون ما يحقق الخيرية لها من أمر بمعروف ونهي عن منكر، وتلك المهمة الشريفة والفريضة القائمة في بلاد الحرمين الشريفين ليست وقفاً على الوعظ والإرشاد ومحاصرة الجريمة، ولكنها لون من الاحتساب؛ فالشاعر والقاص والكاتب في قضايا الفكر وأحوال المجتمع حين تشغلهم هموم أمتهم يحققون بفعلهم خيرية الأمة، ومن ثم لا بد من الاحتساب والشعور برسالة الكلمة وأهميتها؛ فهم بما يسطرون آمرون بالمعروف ناهون عن المنكر. وإذ لا يجوز الحجر على الأفكار ولا شحنها بما لا تهوى فإن مشروعية السبحات الفكرية ليست على إطلاقها؛ فنحن أمة الامتثال لأمر الله والاستقامة على شرعه ومنهاجه )فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَمَن تَابَ مَعَكَ وَلاَ تَطْغَوْاْ إِنَّه بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ(. وكل حضارة لها مقتضياتها ومحققاتها ومقاصدها، ولكل مرحلة متطلباتها، والناس في النهاية أبناء راهنهم، وليسوا أبناء تاريخهم، والمجربون ينهون الآباء عن التسلط على الأبناء؛ لأنهم خُلقوا لزمان غير زمانهم، ولكل فعل ضوابطه، حتى الحرية لها سقفها. وكثير من المتعثرين يرجع إخفاقهم إلى عدم التأسيس المعرفي والتأصيل للقضايا والمسائل ذات المساس بالحضارة، والشباب الذين زلَّت أقدامهم تقحموا الحياة الفكرية بفطر سليمة ومقاصد حميدة وبضاعة ضئيلة لم تَقِهم من لوثة الفكر وفساد الأخلاق. ولما لم يجدوا مَنْ يردُّهم إلى جادة الصواب رداً جميلاً أوغلوا في الخطيئة واستمرؤوها. ولو أن المؤسسات الدينية والفكرية تمتلك الطرق والأساليب التربوية والنفسية، وتتوافر على أدبيات الحوار والمناظرة التي يمتلكها دعاة السوء، لما كان التلوث بهذا الحجم المخيف. ولقد استعاذ المجربون من جلد الفاجر وغفلة المؤمن؛ فدعاة السوء يأتون الأبرياء من بين أيديهم ومن خلفهم وعن أيمانهم وعن شمائلهم. والصراع الفكري لا يخلو من التآمر والغزو، وإن ضاق بهذا الادعاء غير المجربين، وسموا ذلك بعقدة التآمر، والكيد والمكر لم يكونا وليدَيْ عصر دون عصر؛ فكل عصر بحسبه، وكل طائفة تمتلك من القدرات ما يستدعيه وسطها. ومشاهدنا العربية تفيض بالممارسات غير السوية، ولعلنا نضرب الأمثال بالانفجار (الروائي) على المستويات والاتجاهات كافة؛ فكل شاب تعوَّد على الإنشاء لا يجد غضاضة في إخراج رواية أو أكثر متوسلاً بالمسكوت عنه ومستغلاً للأزمات القائمة والظواهر الملحة ك(الإرهاب)؛ ليكون ذلك ظهيراً وعضداً لإشاعة عمله وإثارة الرأي العام، غير آبه بالآثار السيئة التي يتركها مثل هذا العمل الضعيف. وهذا السيل من الروايات المحلية - على سبيل المثال - تناول قضايا دينية واجتماعية وسياسية، وجمع بين ضعف في اللغة وضحالة في الأفكار وتحلل في الأخلاق وغياب لأبسط المقومات الفنية. على أن هذا الصنف من المغامرين وجد مَنْ يحيطهم بالمكاء والتصدية، ويغريهم بمزيد من الأداء الرديء. ولو قُيِّض للمشاهد نقَّاد أشداء لا تأخذهم بالحق لومة لائم لكان واقع الرواية المحلية واقعًا مُرضيًا على الأقل. وإذ يُستساغ الضعف اللغوي والتهافت الفني فإن الجنايات الفكرية والأخلاقية لا يمكن القبول بها ولا المواطأة عليها. وأي مشهد موبوء بحاجة ماسة إلى مواجهة شجاعة تُثني الجهلة بأنفسهم والأدعياء عما هم عليه من ثقة في غير محلها. ولا يمكن أن نعصم مشاهدنا من القواصم ما لم نُشِع ثقافة المراجعة والمساءلة ونوطّن النفوس الأمّارة بالسوء على أن وراءها مَنْ يرد التائهين إلى جادة الصواب وينفي خبث الأفكار عن بنيتنا الثقافية؛ فنحن أمة يسعى بذمتهم أدناهم، وهم يد واحدة على مَنْ عاداهم.