معظم مشكلات البشر في المجتمعات الإنسانية تنشأ بسبب عدم فهمهم لبعضهم البعض، وانعدام تقديرهم لظروف الآخرين، أي أنها تنبع من منطلق ذاتي أناني، فالكل يرى أن الحق له وليس عليه، وأن الطرف الآخر هو المقصر دائماً في حقه، أما هو فقد تعداه العيب، وفارقه النقص، وباعده التقصير. وفي سنواتنا الآنيّة انقلبت الأمور، وانعكست المفاهيم، فأضحى الصغير يرى له حقاً على الكبير، والتلميذ يرى أن واجب الأستاذ هو تقديسه وتبجيله، دون أن يؤدي نقطة من بحر حقوق الكبير التي أمره الله تعالى بها، لاسيما إن كان ذي رحم، والكثيرون أصبحوا ذوي عيون قوية- كما يطلق بدقة على الجريء المكابر- يريدون خلق حقوق لهم من السراب، واغتصابها من الآخرين اغتصاباً. خذوا عندكم مثلاً معاصراً واضحاً: الأخوال والخالات والأعمام والعمات، كان لهم في مجتمعنا مكانة عظيمة تكاد تعدل مكانة الأمهات والآباء، لكنها في هذا العصر الذهبي تلاشت، أو صارت على هامش العلاقات الإنسانية، فقد تمر سنوات وسنوات لم يقم الأبناء والبنات بواجب الصلة تجاههم، وليت الأمر يتوقف عند هذا الحد المؤسف فحسب، بل أصبح الصغار هم من يطالبون بحقوقهم الموهومة، وبقوة وجرأة غريبة، بل ويدفعون أهاليهم لتأييدهم. حتى الأشخاص العقلاء المتواضعون قد تهوي بهم الرياح إلى واد سحيق من عدم تقدير الآخرين والتماس العذر لهم، وبالتالي مقاضاتهم نفسياً ومعنوياً والحكم عليهم بأحكام حاقدة ووجوه كالحة إذا حدث لقاء بين الطرفين في مكان عام أو خاص، كل ذلك بتأثير من قبل بعض الذين ابتلوا بداء العظمة، مما يثير إحباط الطرف الآخر فيقابل القطيعة بقطيعة مماثلة حفظاً لكرامته. إضافة إلى أن أمثال تلك التصرفات المسببة للتقاطع تجعل الطرف المتسامح يتذكر حقوقه التي أهدرها أولئك المتورمون ذاتياً، ولو تبادل هؤلاء اللوامون المواقف مع كثير ممن لاموهم، لرأوا أن للطرف الملام ظروفاً قاهرة وأعذاراً حقيقية كثيرة، بينما الخطأ والتقصير قد أحاطا بأعناقهم التي رفعها الكبر المذموم والأمراض النفسية المنتشرة في واقعنا المعاصر، نتيجة الخواء الروحي والبعد عن الإيمان الحقيقي الذي ينقي النفوس. ويكثر دور اللوامات وما أدراك ما اللوامات في مجتمعنا، فهن أكثر بكثير من اللوامين، بل إنهن اللواتي يصنعن اللوامين الذين يتبنون مواقفهن العتابية في الأغلب الأعم، ثم ينقادون خلفهم بالقطيعة المحرمة، مما تشيع به العداوات وتحيى به الضغائن، لغياب التماس العذر الذي نبه إليه نبينا عليه الصلاة والسلام. ألسنا في مجتمع مسلم، يحث على الصلة وينهى عن القطيعة، ويعلم بأنه لا يدخل الجنة قاطع رحم؟! فعلام هذا التقصير من الصغار الذي يباركه الكبار، أو على الأقل يتغاضون عنه، يبدو أن المستقبل يبشرنا بأحداث اجتماعية غريبة كثيرة تكافئ كل جيل بمن هو أسوأ منه، دون أن يتخذ أحد تدابير علاجية تنقذنا من الانهيار الاجتماعي الذي غزا مُوهناً ومفككاً المجتمعات الأخرى!. [email protected]