لا يحتاج حمام الكموني، قاتل الأقباط السبعة ليلة عيد الميلاد، إلى علاقة مباشرة بأسرة فتاة فرشوط المسلمة المغتصبة، ولا يفرق بعد الزمان والمكان بين الحادثين لتبرير انفصالهما عن سياق المواجهة الطائفية المستعرة في مصر. لا بد إذن أن يعترف الجميع بذلك أولا حتى يمكن تحليل الحادث المدوي الذي شهدته قنا، في أقصى صعيد مصر، أما أن تصر الجهات الأمنية والتنفيذية المصرية على نزع الصفة الطائفية للحادث فهو دفن للرؤوس لا في الرمال لكن في ما هو أسوأ وأردأ. وبمزيد من الروية يمكن تفكيك الحادث إلى أكثر من زاوية تصلح لفهم ظاهرة العنف الطائفي المتجول الحديثة في مصر. جغرافياً، تقع قنا في أقصى جنوب مصر، وهي قَبلياً الأكثر مباهاة بجذورها الشريفة الممتدة – وفقاً لإدعاءات قبائلها - إلى الرسول، هي في ذلك أكثر جذرية في عصبية الانتماء للصورة النقية من الإسلام من مجاوريها شمالا في سوهاجوأسيوط، وأكثر تعصباً للعروبية البدوية من أسوانجنوباً التي يختلط فيها الدم العربي بالدم النوبي فينتج تسامحاً إثنيا جديراً بفوتوغرافيا السياحة الشهيرة في بلاد الآثار والسد. الأشراف، هكذا يطلق على اللحمة الأساسية للقبائل القيناوية التي تحتضن أقلية مسيحية قديمة ليست بحجم التوازن الحرج شمالها في سوهاجوأسيوط والمنيا (حيث تتقارب النسب بغلبة طبيعية للإسلام)، ولا بندرة المسيحيين جنوبها بعد تحول النوبيين جميعاً الى الإسلام بعد ثلاثة قرون من الفتح العربي لمصر. وضع الأقباط في قنا هو أقرب لأقلية مستقرة في عرف رحابة صدر القبائل العربية الكبيرة، هي ليست بذلك الأقلية الحرجة على خطوط النار كما في أسيوطوسوهاج والمنيا، والوضع الطبيعي للأسر المسيحية القليلة في القلب القناوي هي صورة طقس تتناقله الدراسات الاجتماعية والعرفية لهذه الجغرافيا الإثنية مفادها الاستعارة الذمية التالية: يخرج كبير العائلة المسيحية المحتضنة من القبيلة العربية في طقس سنوي وهو يسحب حصان شريف العائلة المسلمة في «زفة» تؤكد الولاء والتبعية الاستزلامية، فتتجدد حماية القبيلة المسلمة للأسرة القبطية من عام لآخر، وينتهي الطقس بحفل يقوم فيه القبطي بخدمة ضيوف القبيلة المسلمة بأن يقدم بنفسه الطعام والشراب. هذا الطقس ليس مبالغة استعارية بل هو مظهر فخر القنائيين حتى الأكثر يسارية وليبرالية منهم، في مقاهي مدينة القاهرة. بمعنى آخر، هناك استقرار ضمني تسليمي في علاقة الأقلية بالأغلبية، وهي مستوعبة داخل أطر السلطات القانونية والأمنية الرسمية، الحزبية منها والأهلية، وبهذه الرعاية العرفية عاش أقباط قنا في مدنها وريفها في احتكاك أقل دموية من الحادث الواقع شمالهم، فلم يسجل تاريخ التفجرات الطائفية في الصعيد منذ منتصف السبعينات أي جور طال أقباط قنا مقارنة بما حدث شمالها. ماذا تغير إذاً في هذه المعادلة المستقرة، ما الذي يدفع ضميراً جمعياً للتعبير عن صدمته باختلال التوازن فيطلق بلطجي مسلم النار على جمهور قبطي غفير ليلة عيدهم؟ لا مفر هنا من الحديث عن فرشوط وحادثتها الاستثنائية، حيث اغتصب «أبله» مسيحي - كما بدا في بكائه أثناء جلسات محاكمته المصورة تلفزيونياً - طفلة مسلمة، وعلى رغم إحصاءات الاغتصاب المرتفعة يومياً في مصر، والتحرش الذي أصبح نافلة قول في الشوارع، إلا أن اغتصاب «مسيحي» ل «مسلمة» عبر بما لا يدع مجالا للشك عن خلل تاريخي في خيال تلك العلاقة. فحوادث هروب «مسيحية» مع «مسلم» هي «الماستر سين» الذي يبلسم العقل الجمعي الشعبي لدى الأغلبية المسلمة، خاصة عندما تحميه معالجة أمنية تميل غالباً إلى حماية «المسلم» الذي تشرعن عقيدته زواجه من مسيحية فيما تحرم الفعل العكسي. أقول هنا إن الحماس الأمني «المدعوم غالباً بحس تمييزي عرفي» لإنهاء مثل تلك الصدامات الطائفية على خلفية علاقة بين الجنسين، أسّس لغبن تاريخي عند الأقباط مفاده أن الأمن غالباً ما يتلكأ في إعادة فتياتهم، بل إنه يحمي غالباً وضمنياً الفعل طالما كان الذكر مسلماً. على الجانب الآخر، شرعن التواطؤ الأمني «حرب خطف الفتيات المسيحيات» وجعل منها حربا إذلالية موسمية للأقباط في صعيد مصر طالما أن النتيجة محسومة سلفاً. نحن هنا نتحدث عن بنية مستقرة من التكيف الأمني والتنفيذي مع التمييز العرفي ضد الأقباط، بل إن محافظ قنا وهو المسيحي الوحيد في جهاز الحكم االإقليمي لنحو نيف وعشرين محافظة، جاء من الأقلية الكاثوليكية داخل الأقلية المسيحية، وبدا الرجل في تصريحاته ملكياً أمنياً أكثر من الملك الأمني حين حمّل أقباط فرشوط مسؤولية مذبحة أقباط نجع حمادي!. لا يحتاج إذاً بلطجي يستعمله مرشحو الدولة ل «تقفيل» انتخابات مجلس الشعب إلى إذن من أحد ولا لعلاقة مباشرة بالإسلام كي ينفذ جريمته. فهو إبن شرعي لهذا المناخ التمييزي التاريخي الذي صدم - على ما يبدو - ب « جرأة المسيحيين في اغتصاب فرشوط»، وهو إبن العدالة الشعبية الصامتة التي اهتز مكيالها، وفيما لم يجد مغتصب فرشوط محامياً واحداً يجرؤ على الدفاع عنه في أولى جلسات محاكمته، سيجد الكموني بلا شك ألف محام للدفاع عن حقه في القتل، أو على الأقل من ينفي عنه جرم الطائفية متكيفاً مع القاعدة التي يراد بها باطل «أن كل متهم بريء حتى تثبت إدانته». لقد اخترع عنصر الأمة معارك «الأنوثة والذكورة» الجوالة، في ظل رعاية أمنية وفراغ سياسي وانعدام معايير مواطنة قانونية، والآن جاء وقت الحلقة الأضعف كي ينفلت عقال مؤدبيها. فمن حادثة جنائية عادية تخضع للقانون إلى انتقام عشوائي طائفي لن يخضع لأي قانون، تنبعث روائح عفن نتحسّسها مع كل تقبيل للحى الشيوخ والرهبان في لقاءات التلفزيون الموسمية. * كاتب مصري